حينما صدر كتاب الأستاذ حسين محمد بافقيه الأديب الناقد عن الثقافة الحديثة في مكة في طبعته الأولى عام 1430هـ، وأهدى إلي منه نسخة قائلاً: (أرجو أن تجد في الكتاب بعضًا من عشق مكة)، وعشق مكة ديدن أهلها حتى أن الواحد منهم كالسمكة التي إن أخرجتها من الماء فقدت الحياة، فحتى عندما تضطرهم الظروف لمغادرتها تظل قلوبهم معلقة بها، فما أن يجدوا الفرصة سانحة إلا وعادوا إليها، ولو على قلة في الرزق والمكانة، فمكة بالنسبة لهم هي الحياة ذاتها، ويكفيهم عزة أنهم يجاورون مَن جواره عز، والانصراف عنه منتهى الذل،
رب هذا البيت، الذي اختار واديهم مهوى للأفئدة على مر الزمان، يفد إليه الناس من شتى أقطار الدنيا لتمتلئ أفئدتهم طمأنينة وأمناً، وقد جال الأستاذ حسين عبر الثقافة المكية في فترة حددها لدراسته تبدأ بعام 1101هـ وتنتهي بعام 1384هـ، ففي مبحث كتابه الأول عن أصل الثقافة المكية وفصلها تحدث عن مكة أنها هبة الدين، وأن الشخصية المكية تأثرت بهذا الدين فأعطاها سماتها، ولعل هذا ما أبعد أهلها عن خوض معترك السياسة أزماناً، وجعل العلوم العربية والإسلامية تزدهر بها متأثرة بالزمان الذي حدد للدراسة، وسرني في هذا أنه نفى كل ما تجنى به أدباؤنا المحدثون عن أن الثقافة في مكة ركدت فركد بركودها العلم والأدب معاً، ولو نظروا متعمقين فيما كان يجري في حلقات الدرس في المسجد الحرام لما تجنوا على علماء مكة وأدبائها خاصة في عصر ما قبل نهضتهم، وفي مبحثه الآخر بعنوان: «البحر والجداول» تحدث عن ثقافة ما قبل النهضة وشدني إلى ما كتب إنصافه لعلماء تلك الفترة، وتحدثه عن شيوع مؤلفاتهم في سائر أوطان المسلمين، وما ربى لهم ذلك من محبة في قلوب إخوانهم المسلمين، وعرض لعدد كبير من علماء أم القرى، الذين كان لهم الأثر البالغ في عالمهم المسلم كله، رغم تلك الهجمات التي لم يتروَ أصحابها في اتهام علماء الدين المكيين بالجمود، ولو راجعنا ما أنتج العلماء في تلك الفترة من الكتب لعرفنا بطلان هذه التهمة، وعند حديثه عن الشروح والحواشي لمست إنصافاً لم يعرفه هؤلاء الذين يدعون الحداثة، ويرجمون تراث الأمة بكل نقيصة، ثم تحدث عن انتقال الكتاب من المخطوط إلى المطبوع، ومساهمة المكيين في هذا الانتقال الحضاري وتأسيسهم المطابع، ثم تحدث عن حديث المطبعة، وما تبع ذلك من ألوان التوق إلى الإصلاح، عبر الولع بالصحافة ونشرها للثقافة المكية، ثم أعجبني أن تحدث الأستاذ حسين عن المسكوت عنه، حين مولد الحجاز الحديث في زمن الثورة العربية، وأثرها في زمن للثقافة جديد، عبرت عنه جريدة «القبلة» آنذاك، ولبست فيه مكة ثوباً جديداً تظهر فيه للناس على أعتاب نهضة متوقعة، ثم يتحدث في مبحث آخر عن معنى الدولة وعن الصحافة وأثرها، وبدء النهضة، ليتحدث بعده عن فجر الثقافة وغيابها، وفي هذا المبحث ينحو لإنصاف الثقافة المكية فيما جاء تحت عناوين مثل: بصيرة ثقافية أو عمى ثقافي، وثقافة وضيعة أم رفيعة، ثم يتحدث عن مكة مدينة العلماء والفقهاء، والوظائف الدينية فيها، ثم عن التأليف المكي ووحدة العالم الإسلامي، ويتحدث عنها في العصر العثماني، ثم يتحدث عن مولد النخبة الحديثة، ووأد الثقافة القديمة، ثم تحدث عن الأدب في مكة حديثاً، وأخيراً حديث رائع عن رسالة مكة في التاريخ واللغة والأدب، فهذا الكتاب هدية السيد حسين محمد بافقيه لمدينة المدائن أم القرى وفقه الله، ولي على أخي عتب فقد قرأت له في كتاب عن أستاذي وأستاذه العالم المفكر الأديب الناقد الأستاذ عبدالله أحمد عبدالجبار رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان كلمة بعنوان: عبدالله عبدالجبار والنقد المنهجي ينحو فيها منحى الاتهام الذي روج له من قبل أستاذنا الناقد الدكتور منصور الحازمي في محاضرة له في لندن، بأن الأستاذ الكبير تتبع خطى الثورة المصرية وتأثر بالاشتراكية وهو ما لم يحدث، فهو المفكر ذو الاستقلالية الفكرية، وإنما تحدث في كتابه عن التيارات بالثقافة السائدة في زمانه، ويوم أن نشرت تلك المحاضرة في كتاب وتأثر أستاذنا الكبير مما جاء فيها قال لي يومها: لعل الأخ الدكتور وجد على أني لم أضمن التيارات قصيدة له أو مقالة، وقد نشرت لما كان في مثل سنه آنذاك، ولكني لم أحظ منه في ذلك بشيء يمكن أن أضمنه الكتاب.
وسيبقى الأستاذ كبير قمة شامخة حتى وإن وجه له البعض نقداً من هذا النوع الذي رجوت أن يخلو منه كتاب أخي المفضال السيد حسين محمد بافقيه وفقه الله، فذاك ما كنت أرجو والله ولي التوفيق.