الثقافة المكية والمدنية لا تعرف العنصرية

شاء الله -عزَّ وجلَّ- أن تكون مكَّة المكرَّمة ملتقى المؤمنين عبر العصور، وستظل كذلك حتَّى نهاية الدنيا، فقد جاء في عدَّة أحاديث البشرى بأنَّ الإيمان في آخر الزمان سيأرز إلى أرض القداسة. فعن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- (إنَّ الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحيَّة إلى جحرها)، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء، وهو يأرز بين المسجدين، كما تأرز الحية في جحرها). وفي سنن الترمذي: (إنَّ الدِّين يأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، وليعقلن الدِّين من الحجاز معقل الأروية من الجبل، إنَّ الدِّين بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي عن سنتي)، وفي كتاب فضائل المدينة من صحيح البخاري ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها). فالمدينتان المقدستان منهما بدأ الإسلام، ويعود إليهما في آخر الزمان، لذا شاع عبر العصور لدى المسلمين كافة أنَّ المجاورة فيهما عبادة لله يسعون إليها، ويتمنون أن يختموا أعمارهم فيها، لذا ظلت المدينتان مجتمعًا مختلطًا من أعراق وثقافات المسلمين كافَّة، لا يعرفون أصلاً انتماءً لغير الإسلام، هم أمة الإسلام لا غير، لا يعرفون قبليَّة، أو عنصريَّة عرقيَّة، فدماؤهم اختلطت فكوَّنوا مجتمعًا إسلاميًّا متراحمًا، فالمكيُّ أخو المكيِّ، والمدنيُّ أخو المدنيِّ، لا يسأله عن عرقه أو قبيلته، وهنا نمت ثقافة إسلاميَّة متسامحة، يعيش فيها الناس دون أن يبحثوا عن الأصول والأعراق، يتزاوجون، فيكونون أمة واحدة هويتها الإسلام، وهم مكيون أو مدنيون، يفخرون بذلك ولا يعرفون الفخر بغيره، فربهم يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وهو يقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) ويقول تعالى في سورة آل عمران تأكيدًا لهذه المساواة: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ)، وعندما نقول المساواة تكون العبارة شاملة في مدلولها ومعانيها، يعني مساواة الفقير والغني، والأبيض والأسود، والقوي والضعيف فقد سمع سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر الغفاري يحتد على بلال -رضي الله عنهما- وهو يحاوره قائلاً: يا ابن السوداء، فغضب صلى الله عليه وسلم وانتهر أبا ذر وقال: طف الصاع، طف الصاع، أعيَّرته بأمِّه؟ حتَّى أنَّ سيدنا أبا ذر وضع خدَّه على الأرض وأقسم على سيدنا بلال أن يطأه بحذائه؛ حتَّى يغفر الله زلته، ويكفِّر ذنوبه، وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلاَّ بالتقوى)، فالفضل لا يكون إلاَّ بالعمل الصالح الذي يميَّز الناس عن بعضهم، وقد عشت هذا العمر كله بين مدن أربع، قلَّ أن أسافر إلى سواهنَّ مكة والمدينة والطائف وجدة، والأخيرتان تخدمان المدينتين اللتين فضلهما الله، وعشت بين أهلها من أعراق مختلفة، فنشأت لا أعرف هذه العنصريَّة المقيتة التي تجري على ألسنة بعض خلق الله لجهلهم بدينهم، فما أجمل أن نشيع بين الخلق هذه الثقافة التي نشأ عليها المكيون والمدنيون، فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، تعلمنا على أيدي علماء فضلاء من أهل الله من أعراق مختلفة لا نعرف عنهم سوى أنّهم مكيون أو مدنيون.
فكونوا سادتي أهل تسامح، ترعون إخوانكم في الإسلام أنى كانت أعراقهم، أو قبائلهم، أو بلدانهم، وإيَّاكم والعنصريَّة المقيتة فهي تورد المهالك، اطلبوا رضا ربكم بالانتماء إلى دين الله يجمعكم ويمدكم بخير الفضائل. وافخروا بأنكم أمة مؤمنة تقتدون بسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا أصحابًا عربًا ورومًا وأحباشًا ومن كل عرق وجنس، وكانوا بفضل ربهم أمة واحدة، هذه نصحيتي، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: