ثبتنا على موقفنا الوسطي والمعتدل يوم أن كان الغلو والتشدد سائداً، تسرب من خلاله التبديع والتفسيق وتهم الشرك والمخالفات التي تنعت بالشرعية، وما لها صلة بالشرع أصلاً، وأوذينا ونحن ندعو للتسامح بين المسلمين على مختلف مذاهبهم وطوائفهم، ولما كانت الغاية خدمة العباد والدين، لم يكن لنا أن ندل بما نفعل، فما كنا نفعله غايته أن نرضي الله عز وجل، وندعو إلى إصلاح أحوال مجتمعنا، ونعرض عمن يذمنا أو يسفّه آراءنا، فنحن متأكدون أن ما نقوله للناس إنما هو دعوة للإصلاح، ومن يذم كنا لا نشك أن الناس يعلمون أنه ذم للحق، وإعلاء لما تحدث به النفس أنه إصلاح وهو ضده، وعاش مثلي منذ مراحل تعلمه الأولى وهو يتعرض لذم فئات من الناس وصبر، لأنه علم أنهم حتماً سيندمون، فمن ينحاز للغلو والتشدد والخطأ البالغ مهما طال به الزمن، فهو أخيراً سيكشف عما في نفسه، وسيعلم الناس سوء ما فعل، وقد أمضيت عمراً حتى بلغت هذه السن، وأنا أعلّم العلوم الشرعية في التعليم العام ثم في كليات المعلمين، وفتحت صدري وبيتي لمن أراد أن يتعلم من علم الدين شيئاً رجاء ثواب الله عز وجل وصلاح أمة أفخر بالانتساب إليها، وديدني وسطية واعتدال، أبين للناس حكم الغلو في الدين والتشدد فيه، مع نفور شديد من التحلل من الدين وعدم التزام أحكامه، وأنا واثق أن هذا المنهج الذي يجب أن يدعو إليه كل عالم، منّ الله عليه بالعلم الشرعي النافع، وخبر التعامل مع الخلق، واكتسب بالتجربة معرفة بالدنيا، وما يصلحها وما يزيدها غروراً وفساداً، ورأينا صفوفاً من الناس ادعوا العلم، وما هم بحق من أهله، وأفسدوا على الناس دينهم، ولعل مع فساد الدين حتما الدنيا تفسد ومن تتبع تواريخ الأمم أدرك هذا، فلا خير مع فساد التدين أصلا، وكنا إذا رأينا المنتسب إلى العلم إذا حقق رغباته لم يلتفت إلى حل أو حرمة، علمنا يقيناً أنه في حقيقة أمره مدع للعلم، لا حامل له، وأن حملة العلم الذين توثقت صلتهم بربهم بسبب هذا العلم تشير إليهم محاسنهم، غايتهم أن يدعوا الناس إلى الخير، ويروا أن العاصين من إخوانهم هم أشد الناس حاجة إليهم يهدونهم إلى الطريق الأمثل لما يوصلهم إلى مغفرة ربهم، يتحملون منهم الأذى ليقنعوهم بطاعة الله، والإقلاع عن معاصيه لا يواجهونهم بالذم أو السب والشتم، بل يتخولون لهم من الأساليب ما ترغّبهم فيما سيقولونه لهم من الحق، فمن يريد الخير للمسلم لا يذمه وإنما يبحث عما يقنعه بالطاعة لله ويرغبه فيها وفيما تؤدي إليه، وقد عاشرنا من مشايخنا من كان لا تسمع منه لفظاً تكرهه، ومن يتأثرون بدعوته الآلاف من البشر، ورأينا من علم الأدعياء أنهم ذموا من يرتكب الصغائر حتى جرأوه على ارتكاب الكبائر، ومن تنصحه إذا بالغت في ذمه تركك ولم يستمع إليك، وأما إذا ذكرت له من الخير ما جعل أصحابه سادة الدنيا والدين رق قلبه وأصغى إليك، فقد مضى الزمن الذي ظن البعض ألا يرتدع الناس عن المعصية إلا بذمهم بل وسبهم وشتمهم، فإخوتي حملة علم الشرع كونوا أقرب إلى الناس، وأرأف بحالهم، تهدونهم إلى الخير وتنفرونهم عن الشر بأقرب أسلوب وأشده رقة لينقادوا لنصائحكم، ولا تظنوا أن غلظتكم ستجعلهم يتراجعون عن المعاصي فربنا عز وجل خاطب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ… الآية)، فليهدين الله بكم الناس خير من أن تنفروهم عنكم، إذا كنتم فعلاً تطلبون لهم التوبة، فشاركوهم إياها فسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة)، رغم أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وما فعل إلا إرضاء لربه وليتبعه من آمن به، فاللهم اجعلنا ممن يرأف بعبادك ويسعى لهم في كل خير، ويبعدهم بقوله وفعله عن كل شر.