القتل لا يكون عبر فتوى

هؤلاء المتعجلون بالفتوى ممن يحكمون بقتل أشخاص بعينهم –كما حدث في مصر وتونس- إنما هم يوزعون الأحقاد والبغضاء على الخلق

الفتوى إنما هي الإخبار عن حكم الشرع لا على وجه الإلزام، وإنما قيد هذا الإخبار عن حكم الشرع بأنه على وجه لا يلزم لسببين أولها: أن الفتوى في جانب منها بحث عن حكم الشرع في واقعة جديدة لم يرد بحكمها نص ولا إجماع لذلك اشترطوا في المجتهد أن يكون قد بلغ رتبة الاجتهاد، ليكون قادراً على استنباط حكم للوقائع الجديدة من الأدلة الشرعية، ولهذا قسموا المفتين إلى مفتٍ مطلق قادر على الوصول إلى الحكم من دليله الشرعي، ومفتٍ مقيد بمذهبه يستخرج منه الوجه والوجهين، ويتتبع الأقوال فيرجح منها ما لاءم قواعد إمامه، ولكنه غير قادر على الاجتهاد في الوقائع الجديدة ولهذا كان الإفتاء إذا صدر عن عالم مجتهد اجتهاداً مطلقاً أو مقيداً بمذهبه فهو غير ملزم لغير هذا المجتهد، وإن قلده أحد لعدم قدرته على الاجتهاد فذاك مباح ولاشك، وكما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: الاجتهاد في الجملة لا يحرمه أحد، والتقليد كذلك، وهذه مقدمة لابد منها لما نحن بصدده، وما يشير إليه العنوان، فالقتل لا يحكم به إلا القاضي الذي ينظر في الوقائع ويستحضر البينات، ويستمع لأقوال الخصوم وينظر في الملابسات والقرائن، فمن ارتكب جرماً يستحق عليه القتل يعرض عليه فإذا ثبت عنده أنه يستحق القتل أصدر حكمه ثم روجع هذا الحكم واستؤنف، وقد ينقض وتعاد القضية إلى قاض آخر فإذا ثبت الحكم واستقر نفذت العقوبة، ولم يقل أحد من العلماء أن أحداً ليستحق القتل لأن عالماً أفتى بقتله، والعلماء كلهم بشر، يقع منهم ما يقع من البشر من صواب أو خطأ، ولا يمكن أن ينزهوا عن أن يكون بينهم وبين الآخرين ما يترتب عليه حقد أو بغضاء لذلك فالقتل لا يكون بفتوى، وإنما بحكم قضاة متعددين كما هو الحال في بلادنا، يستأنف حكمهم، وقد يُنقض، فيمر الحكم بمراحل تبعد عنه الجور، لهذا فهؤلاء المتعجلون بالفتوى، والذين يحكمون بقتل أشخاص بعينهم كما وقع في مصر وتونس وتردد على ألسنة بعض من سموا أنفسهم دعاة، هم بذلك يوزعون الأحقاد والبغضاء على الخلق، فإن لم ينتصروا عليهم بهذا وبما يلبسونهم من تهم لا يستطيعون إثباتها عليهم، قالوا إنهم يستحقون القتل، وتتبع هؤلاء فتجدهم لم يأخذوا العلم على يد عالم ثبت علمه وبه اشتهر، ولا تعلموا في معاهد العلم وكلياته، بل لعل بعضهم ممن وقعوا في سلوكيات منحرفة، أو ارتكبوا جنايات وعوقبوا عليها، ثم أعلنوا توبة ولا يعلم هل هي صادقة؟ فاشتدوا على الخلق وكأنهم قد ظنوا أن العلم لا يكون إلا هذه الشدة وبعض الغلو فانتشروا يكفرون الناس ويبدعونهم ويتهمونهم بكل نقيصة، وغيرهم أناس قدموا من حرف ومهن كثيرة لا علم لهم بالشرع وعلومه، وظنوا أن جلوسهم في بعض حلقاته زمناً يسيراً، أو قرأوا كتاباً أو كتابين في الوعظ يجعل منهم علماء فأخذوا يفتون في مسائل لو كانت في عهد الراشدين لجمعوا لها علماء الصحابة، وهذان الصنفان يكادان أن يسيطرا على مجموعات جاهلة أصبحوا لها شيوخاً يوجهونها إلى ما جعل بعض مجتمعاتنا العربية تتعرض إلى اضطرابات حادة، وها هي بلدان الربيع العربي تجري على أرضها العجائب، ويتصدر المشهد فيها مثل هؤلاء بل وينازعون الأمر أهله، كما تفعل هذه الشرذمة الجاهلة في مصر، وهي تسب وتشتم وتلعن على شاشات التلفزيون وفي محافلها الخاصة، وعبر منابر بعض المساجد، وها هم يفتون بقتل بعض الرموز السياسية بعبارات صريحة سمعها الناس على الشاشات ومن منابر المساجد، والغريب أنهم إذا واجههم أحد بما قالوا، قالوا: إنهم لم يقولوا ذلك، أو الكلام منتزع من سياقه، ولكنه تحريض على القتل، وها هو قد حدث في تونس فأحد هؤلاء على باب مسجد أفتى بقتل بلعيد فقتل ثاني يوم بالرصاص على باب بيته، وإذا استمر هذا الوضع فسنجد أن الدماء تسيل على الأرض المسلمة أنهاراً، ما لم يردع أهل كل بلد سفاءهم عن هذا الجهل المركب، فمثل هؤلاء ينشرون جهلاً وهم يظنونه علماً، ويدعون إلى شر، وهم يظنون أنهم الأخيار الذين يقودون المجتمع إلى كل خير، فعلى العقلاء في عالمنا الإسلامي الوقوف في وجه هؤلاء بحزم وعزم لدرء خطر عظيم عن مجتمعات المسلمين، وهو ما نرجو أن يفعلوه، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: