المبالغات تطمس الحقائق

النجومية في هذا الزمان صناعة تعتمد التزييف لترفع من لا يستحق أن يكون في المكان الذي هو فيه

المبالغة في أي شيء تفسده, وتغيب الحقائق عنه مادام من يستعملها قادرًا أن يغري الناس بتصديقها ولو جزئيًا, فقليل العلم يلتف حوله من المبالغين من يضفي عليه من الأوصاف ما هي ليس هو أهلاً لها, فهو العالم البحر العلامة الذي لا يشق له غبار, وهو الذي في المرتبة الأعلى من الذكاء, وهو من التقوى بمكان لا يرقى إليه الكثيرون, مع ضم عبارة متداولة إلى مثل هذا القول: (نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله), وبعد أن تبلغ المبالغة مداها ويرددها كثير من الناس يصبح قليل العلم عالمًا, فيفتي الناس بقليل علمه وكثير جهله فيَضل ويُضل الناس في زمان أظل الناس ما حذر منه سيدي رسول الله حينما ذكر أن العلم يُنتزع من الناس بقبض العلماء, فلا يبقى إلا رؤوسًا جهالًا فيفتوا بغير علم, فيَضلون ويُضلون الناس, ولعل زماننا هذا إلا بدايته, يدل لهذا, هذه الفتاوى التي لا تعتمد على دليل, والتي تجعل الناس في حيرة من أمرهم, وكلما تزايد هذا الوضع كلما غاب العلم الحقيقي الهادي إلى الدين الصحيح, المؤدي إلى تدين يرفع من قدر صاحبه عند الله والناس, ويصلح الله به كثيرًا من الناس, فغياب التدين المعتمد على علم, يُنشر ضده «تدين آخر», يتخذ منه بعض الناس وسيلة للوصول إلى غايات دنيوية بحتة في تولي المناصب والإفادة منها جاهًا ومالًا, فتزدحم الساحة بهم, فتفسد الحياة على الناس, ويغترون بمن ليس متدينًا حقيقة, والسبب في الأصل مبالغة غير مسؤولة في الثناء على من لا يستحق الثناء, ومن هذا أيضًا المبالغة في الثناء على مسؤول من قبل من لا يعلم عنه شيئًا أصلاً, وفي المجتمع مداحون ممن أُمرنا أن نحثو في وجوههم التراب, يفسدون علينا الحياة, فينسجون حول مسؤولين الكثير من المبالغات ينثرونها على الملأ, وبعض من ينثرون عنهم هذا الثناء لا يستحقون منه شيئًا, وهذه المبالغات إنما هي كذب محض, فقد امتدح من هؤلاء من ثبت فساده بيقين وحوكم عليه, وعزل من منصبه لهذا, وبعضهم كلما تطاول الزمن انكشف أمره, وأنه غير كفؤ للمنصب الذي تولاه, ولكن الثناء المبالغ فيه خلق حوله هالة من ضوء مزور صرف الناس عن أن يعرفوا حقيقته, فأضر بهم في منصبه وضاعت حقوقهم بسبب تصرفاته, وكم حدث مثل هذا والعقلاء يرونه, فإن تحدثوا عن الحقيقة خشوا ألا يصدقهم الناس, وحوله زمرة يبالغون في الثناء عليه ليخفوا نقائضه, حتى تأتي الكارثة عندما ينكشف أمره لمن ولاه هذا المنصب فيعزله عنه لما وقع منه من أخطاء وخطايا, وزاد الأمر اتساعًا, فحلبة الثقافة وساحاتها ساد فيها شلل تستخدم نفس الأسلوب فقد تجد فيها ما إن قرأت له شعرت أنه لا يستحق كل ما يقال عنه, ويبالغ فيه من أجل أن يصنع منه نجمًا في ساحة أدب أو نقد أو كتابة صحفية والأمر لا يزيد عن كونه تبادل منافع, أحدهم يثني على صاحبه ويبالغ في الثناء, ليثني عليه صاحبه بما ليس فيه ويبالغ كثيرًا, وهكذا وجدنا أحيانًا من يمثلنا في الخارج وهو يسيء إلينا إن تحدث وإن قدم ورقة في منتدى أو مؤتمر, ولم يحاسب من أرسله الذي كان من شلته والعاملين من أجل صنعه نجمًا, فإذا هو نجم منكدر, والنجومية في هذا الزمان حقيقتها أنا صناعة تعتمد على التزييف لترفع من لا يستحق أن يكون في المكان الذي هو فيه, خاصة وأن هذه الصناعة الرديئة دخلت ميدانًا ما كان يجب أن تقترب منه, وهو ميدان الدعوة والوعظ والإرشاد, والتي هي في الأصل يجب أن تكون حكرًا على العلماء العاملين الأتقياء الذين يخشون ربهم, فأنتجت لنا دعاة جددًا, كثير منهم قليل العلم, بسهولة تقع منه الأخطاء والخطايا, وتظل دومًا المبالغة في الثناء هي السبب, خاصة إن ضمنت كذبًا صريحًا.. فهل ندرك هذا؟ هو ما أرجو, والله ولي التوفيق…

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: