الناظر في أحوال عالمنا الإسلامي اليوم يرى هذه الفوضى الفكرية التي تسوده، والتي أعادت كل قضايا الخلاف القديم بين كل طوائف المسلمين، وفرقهم، ومذاهبهم، خاصة بعد ظهور هذه الجماعات المتأسلمة، والتي تفترض منذ ظهورها أن لا أحد من المسلمين كافة من يفهم الإسلام سوى قياداتها، والتي في غالبها بعيدة جدًّا عن العلم بعلوم الدِّين، أو إدراك مقاصده، وينقصها كثيرًا العلم بالواقع الذي يعيشه المسلمون، ويطلق من الشعارات ما لم يمكنه تطبيقه حتى على نفسه، وأقرب الناس إليه، فكان لظهور هذه الجماعات الأثر المدمّر لما كان عليه المسلمون قبلها من التمسّك بدينهم، ومعرفة مَن يتوجّهون إليهم إذا أشكل عليهم في فهم نصوص الدِّين، أو شيء من أحكامه، فإذا سمعوا منهم اطمأنت نفوسهم لما قالوه لهم، ومضت حياتهم مسلمين يفخرون بدينهم، ويبنون حياتهم عليه ما أمكنهم ذلك، نعم يعتري حياتهم أخطاء، لكنهم مهما تكررت يستطيعون التخلّص منها، فجاءت هذه الجماعات لتفرّق جمعهم، وتعدد مناهجهم، وتوقد نيران الاختلاف المولّدة لشدة الكراهية فيما بينهم، رأيناها في أحيان كثيرة تتحوّل إلى اقتتال، وعنف ظاهر على كل المستويات، كنا نتجوّل بين بلدان المسلمين، ونحضر فيها لقاءات ومؤتمرات، وما كنا نشعر أن اختلافهم بين فرق وطوائف يفرّق بينهم، رغم وجوده، وتعددت انتماءاتهم بسببه، إلاّ أنهم يعرفون أن الجامع بينهم هو الإسلام، وإصرارهم على حقيقة ألاّ أحد من أهل القبلة يكفر أو يهجر، جعل الاختلاف الذي بينهم مذهبيًّا أو طائفيًّا غير مؤثر في إنشاء عداوات بينهم، تؤدّي إلى اقتتال بينهم إلاّ ما ندر.
أمّا بعد ظهور هذه الجماعات فقد تشرذم المسلمون بينها، وأصبح بعضهم يكره البعض الآخر، كل ينهض بدعوى جماعته، ولا يرى حقًّا سواها، ويبايع قائدها تلك البيعة التي لا يتخلّى عنها، دون أن يعلم أن هذا الذي بايعه جاهل لا يعلم من علم الدِّين والدنيا شيئًا، وأصبحت هذه الجماعات تتعدد تعددًا لا ينتهي، فكل يوم تولد جماعة جديدة، وكل جماعة في الأعم الأغلب تعادي بقية الجماعات، ولا همَّ للجميع إلاّ أن يتّخذوا من الدّين سلّمًا إلى أغراض دنيوية من الوصول إلى الحكم والتحكّم في الخلق باسم الدِّين، وبعضها لدى المنتمين إليها حبٌّ للعنف، وإراقة الدماء، والتلذذ بتعذيب خلق الله، وها هم اليوم يعيثون في الأرض فسادًا، ويجدون من الساديين من البشر عونًا لهم من كل الأمم والشعوب على اختلاف انتماءاتهم، والذين مرّ ببلادهم بعض هؤلاء أدركوا أنهم خارج نطاق البشر، وهذا التشرذم الذي عليه المسلمون اليوم هو ما زاد في ضعفهم حتى أصبحوا لا يستطيعون مواجهة أعدائهم، فأعداء الداخل أشد ضراوة من أعداء الخارج، ويعلمون من المسلمين مَواطن ضعفهم، لذا أوكل أعداء الخارج إلى هذه الجماعات أن تنهك قوى المسلمين، فإذا بلغوا أشد حالات الضعف، تدخل أعداء الخارج بحجة تخليصهم من الجماعات الإرهابية المتطرّفة، وحققوا ما كانوا يسعون لهم أزمانًا عديدة وفشلوا، ولكنهم بوجود هذه الجماعات يجدون الفرص الملائمة لتحقيق كل خططهم لبلدان المسلمين، وها نحن نرى سقوط كثير من البلدان في أيدي جماعات متأسلمة، ويتم التدخل الأجنبي فيها بحجة حرب هذه الجماعات، وليس أمام المسلمين لإنهاء هذا التشرذم إلاّ أن يسعوا إلى التخلّص من هذه الجماعات، وعدم السماح بنشوء مثيلاتها مستقبلاً، فكفى المسلمين عبر تاريخهم ما حل بهم بسبب اختلافاتهم، خاصة العقدية منها، والتي أورثتهم الكثير من العداوات فيما بينهم، وأسلمتهم إلى كراهية بينهم حتى يومنا هذا، وإذا قضوا على هذه الجماعات فعليهم أن ينشروا وعيًا بينهم بالتعايش حتى مع الاختلاف والبُعد عن الكراهية، فإن فعلوا ذلك كفوا شر هؤلاء المتطرّفين، فهل يفعلون؟ هو ما نرجو، والله ولي التوفيق.