من أؤتمن على مالٍ -عامًا كان أو خاصًا- فلم يصنْ هذا المال فلا إيمان له
عندما بعث الله رسله للناس بكتبه فإنما أراد بما رسم لهم من مناهج أن يحفظ لهم خمسًا هي: الحياة, والدين, والعقل, والنسل مع العرض, والمال, لأن هذه الكليات الخمس, هي التي تستقيم بها الحياة البشرية, وأيًَّا منها إن لم يحافظ عليها أدت إلى الاضطراب في الحياة ولم تستقم أحوالها, ولذا شرع الله في كل دين ما يحفظ وجود هذه الكليات, ويمنع العدوان عليها, وأحكام الإسلام أشد تفصيلًا في هذا الباب, ولكننا في هذه المقالة سنقتصر على ما جاءت أحكام الدين الحنيف لتحفظ لعباد الله أموالهم, وتضع من العقوبات أشدها على التعدي عليها, ونجد أول ما نجد التوجيه الرباني العظيم في قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون), وفي الآية توجيه عال فيه من السمو ما لا يدركه إلا القلة من البشر, في إشارة إلى المال الخاص وأن حكمه مثل حكم المال العام, فإذا كان الاعتداء على المال العام باختلاسه واتخاذ كل وسيلة محرّمة للاستيلاء عليه خطرا عظيما على الأمة, فإن أموال الأفراد إذا تعرضت للاستيلاء عليها بظلم عن طريق الرشوة مثلًا أو التزوير, ففيه حرمان لصاحبها منها, ومن يعمل فيها من الناس في مشروعات يُنشئها صاحب المال, فمال الفرد مال فيه حقوق للفقراء (الزكاة), وفيه أجور من يعمل في هذا المال حينما يوظف صاحبه عددًا من المواطنين, يعتمدون على العمل في مصانعه -مثلًا- في معاشهم, لذا فيجب علينا جميعًا المحافظة على هذا وكأنه مالنا, فلا نعرضه للسرقة أو الاختلاس وما شابه ذلك, فنفعه لنا جميعًا وضرره علينا, فالثروات كلها سواء أكانت من الثروات العامة كالمعادن والبترول أو ثروات الأفراد إذا كان ينتفع منها الأفراد هي ثروات للوطن يجب على الجميع حمايتها وصونها, فالجميع ينتفعون بها, وأول المعاصي المتعلقة بالمال هي خيانة الأمانة, يقول سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (لا إيمان لمن لا أمانة له, ولا دين لمن لا عهد له), ومن أؤتمن على مالٍ -عامًا كان أو خاصًا- فلم يصنْ هذا المال فلا إيمان له, والأمثلة في هذا الباب كثيرة لا حصر لها, فكل الموظفين في الشؤون المالية عرضة لمثل هذه الخيانة بالتفريط في المال تحت أيديهم أو التسهيل لاختلاسه من قبل مديرهم أو اختلاسه, والاختلاس مثل السرقة إلا أنه لا حدّ فيه, وفيه التعزير بما يردع عنه من ألوان العقوبات الشديدة من السجن والجلد وما شابه ذلك, ومن المعاصي المتعلقة بالمال في عصرنا هذا ما عُرف بالمناقصات للحصول على الفرصة في إنشاء مشروعات الدولة, حيث يقوم الموظف المكلف باجراء هذه المناقصة بإباحة سر ما قدّر لهذا المشروع حتى يتقدم به أو أقل منه ليحظى بإقامة المشروع والكسب من ورائه المال العظيم, والذين لا يخشون الله يحصلون على أموال لا يستحقونها عن هذا الطريق, ومن الخيانة أيضًا إنشاء الشركات بأسماء الأبناء والزوجات لترسية المناقصات عليها ليتلاعب الموظف العام بالأموال العامة, والسرقة من المعاصي الكبيرة المتعلقة بالأموال, ويضرّ بها المال العام والخاص, وكلنا نعلم عقوبتها الحدّية: (قطع اليد من مفصل الكف), فالله عز وجل يقول: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما نكالًا من الله والله عزيز حكيم), وانتشار السرقة في أي مجتمع كان ولا شك يدل على أن الأمانة قد اختلّت فيه, ومن هذه المعاصي الرشوة, وهي وسيلة لكسب مال خبيث, فسيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لعن الله الراشي والمرتشي) وفي رواية أحمد (والرائش بينهما), وما كان اللعنة للثلاثة إلا لعظم الإثم, ولشدة ما تُفسد في المجتمع الذي تُمَارَس فيه, حيث يصبح الحصول على الحقوق من أصعب الأمور في مجتمع تشيع فيه الرشوة, ويمكن لأي إنسان أن يحصل من حقوق غيره ظلمًا وعدوانًا على ما يريد, ولعل هذا ما أشار الله إليه في قوله تعالى في الآية السابقة: (وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) حيث يُقدِّم المستبيح لأموال الناس الرشوة للحاكم الشرعي (القاضي) مالًا ليحكم له بمال أخيه, وهو يعلم ألا حق له فيه, وهو في العصور المتأخرة شائع ومنتشر في كثير من البلاد الإسلامية, وليُعنَى وُعّاظ المسلمين بمثل هذا ليكشفوا للناس أسباب الفساد وألوانه, ويدعونهم إلى الخير وتجنّب الشر, هو ما نرجو والله ولي التوفيق.