كم من متعرض للفتوى, متعجل بها قد أثار بين الناس اختلافاً لا حاجة إليه..
إن النظر في ما يستجد من وقائع في حياة الناس فيما لا نص فيه بحرمة أو إباحة يقتضي من المجتهد أن ينظر في كل الأدلة التي ليست نصا, فيؤخذ منها ما يناسب هذه الواقعة, فالأحكام الاجتهادية معلومة بداهة بأنها تتغير بتغير الأزمان والأعراف والعادات, والمجتهد لا يتقيد بمذهب معين, بل ينظر في كل المذاهب, ويستخدم من أصولها ما يعينه إلى الوصول إلى حكم صائب, وينظر في مقاصد الشرع وقواعده ليصل إلى حكم يحقق للناس مصالحهم, وقد رأينا من العقود مثلا يظهر عبر فترات تاريخ الإسلام إلى ما لم يكن موجوداً مثله في عصر سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده من الخلفاء الراشدين ولم ير العلماء فيه أن يمنع, فالترك لا يكون دليلا إلا إذا كان معلوما سبب الترك فيه, وأن تمنح الدولة موظفيها إجازة في أي يوم من أيام الأسبوع فلا دليل يمنع ذلك, وإذا تخيرت يوما هو عيد الأسبوع في ديننا ثم أضافت يوم السبت إليه لا تتخذه عيداً, وإنما لتحقق بذلك مصلحة للمسلمين ترفع عن كواهلهم ما كان تخسره شركاتهم ومصارفهم وأسواقهم في تغيبها عن أسواق العالم أربعة أيام كاملة, يومي الخميس والجمعة التي هي إجازتنا السابقة, وإجازة الدول الأخرى وهي السبت والأحد, وهي قضية مصالح تعطل, وهو أن يكون السبت عطلة لا شيء يحرمه أبداً, والتصور أن فيه تقليداً لليهود فيه بعد عن الواقع, فاليهود إنما يحتفلون به لأنه عيدهم الأسبوعي ولهم فيه شعائر يأتونها أمرهم بها كما يعتقدون دينهم, ويسبّتون في يومهم بالامتناع عن كل عمل مباح, والمسلم لا يعرف هذا المعنى ولا يمكن أن يقلدهم فيه, وإنما الأمر حل لمشكلة تطاول عليها الزمان, ولا حل لها إلا بما صدر به المرسوم الملكي, والذي اعتمد على دراسة ميدانية ورؤى شرعية, شارك فيها الكثير من العلماء, وإذا بقي عالم أو آخر يعترض فعليه إذا كان لا يستطيع أن يتنازل عن رأيه فعلى الأقل أن يصمت, حتى لا يشتت العامة, أما أن يرفع ذلك صوتا ثم يعلن أن من أخذ بهذا الرأي من إخوانه المسلمين, وأقرهم عليه ولي الأمر وصدر به أمر منه إنما هو من المغضوب عليه والضالين, فهذا يخرج عن الاجتهاد, والإصرار على مثل هذا المسلك لا أرى فيه مصلحة للعباد والبلاد, بل ولا أراه لمصلحة هذا الدين الذي جعل الله الاجتهاد فريضة توسعة على العباد, ولم يقصره الشارع على معين أو معينين, بل هو حق لكل عالم تأهل للاجتهاد وبلغ رتبته.
وقادة هذا الوطن هم دوماً يحرصون على تطبيق أحكام الشريعة ورعاية العقيدة, ومن لا يرى هذا إنما هو يعيش في مجتمع غريب عنه, وولاة الأمر دوما يسعون ما أمكنهم ذلك لتحقيق مصالح الوطن وأهله.
والاجتهاد في هذا العصر ثبت أنه يجب أن يكون جماعياً من العلماء المجتهدين الأبرار الأتقياء, خشية انفراد أحد بها وهو لم يتأهل للاجتهاد أصلا, فيضر نفسه ويضر المسلمين, وكم من متعرض للفتوى متعجل بها قد أثار بين الناس اختلافا لا حاجة إليه, وعادى بعضهم بعضا من أجل ذلك, ولهذا فإن الفتوى في القضايا العامة والتي يترتب عليها مصلحة عامة للمسلمين أو تدفع عنهم ضرراً لا يجب أن تترك لعالم وحده في هذا الزمان, فكيف إذا كان ممن يختلف في رأيه ويبادر إلى تكفير المسلمين لأهون الأسباب, فهذا اللون من الفتوى يجب أن يخص بهيئة كبار العلماء وأن يكون الرأي فيها للأغلبية حفاظاً على مصالح هذه البلاد الطاهرة ومواطنيها, فكفى الناس ما مرّ بهم من مشاكل من بعض الفتاوى المتعجلة, والتي أطلقها البعض بتكفير من يختلف معه لأهون الأسباب, ولا يثبتها دليل شرعي ثابت, مع أن التكفير والحكم بالردة على معين لا يجوز فلذلك أسباب يجب أن تتحقق منها وموانع يجب التأكد من عدم وجودها, ولا يكون ذلك إلا عبر القضاء لأن التكفير يعني الردة عن الإسلام, وهو يقتضي حداً هو قتل المرتد عند الجمهور, وتصاعد نبرة التكفير والتضليل أصبحت من عوامل شق الصف المسلم, وهاهي الأحداث من حولنا تتلاحق بسبب مثل هذه الفتاوى, ولعلنا اليوم نعي الأخطار التي تجلبها علينا مثل هذه الفتاوى المتعجلة والمتفلتة, ولعلنا نحاول أن نقيد هذا بنظام وتعليمات صريحة, فهو ما نرجو والله ولي التوفيق..