إن مناسبة بدء العام الجديد عندنا تثير لدينا الكثير، فهي تذكرنا بحكم شرعي واجب التطبيق، وهي هجرة المسلم من ديار الكفر، التي لا يستطيع فيها ممارسة شعائر دينه ويحجر على حريته أو يؤذي في بدنه وماله وعرضه، إلى ديار الإسلام التي فيها يتوفر له كل هذا ويأمن بها على ما خاف عليه.
كانت الهجرة فرضا على المسلم في بدء الزمن الذي أطل فيه الإسلام على هذه الأرض المباركة، فكانت الهجرة من مكة، أو أي جزء من الجزيرة لا يزال أهله مشركين إلى المدينة حيث النبي صلى الله وسلم ومن آمن معه، وكان خروج من آمن بالله ورسوله إلى الصحراء والتبدي محرما.
فالله عز وجل يقول “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا”، لذا أمر سيدي رسول الله صحبه عندما آذاهم مشركو مكة بالهجرة للحبشة وقال لهم: “إن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد”، ولذا قال سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا” فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”.ولكن هذه الهجرة امتنعت بعد فتح مكة، حيث أصبحت أم القرى دار إسلام فقال سيدي النبي-صلى الله عليه وسلم- “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية”، لكنها بقيت ما دام في الدنيا ديار كفر قد يظلم فيها المسلم فيجب عليه حينئذ أن ينتقل إلى دار إسلام يجد فيها العدل، وإن تغيرت الظروف اليوم فوجد بعض المسلمين الظلم في ديارهم ووجدوا العدل في أرض أخرى لا يحكمها الإسلام، هذا الحكم باختصار وتبقى الهجرة ذكرى كلما مرت بالمسلمين تذكروا صبر سيدنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام على ما نالهم من أذى في مكة من المشركين، وهاجر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الهجرتين إلى الحبشة، حتى جاء الأمر الإلهي بالهجرة إلى المدينة المنورة، ورغم ما في هذا الأمر من ترك الوطن، والذي كان إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- أحب ما سواه، ولتعلق أصحابه رضوان الله عليهم به، وكراهية أن يغادروه، إلا أن الأمر واجب التنفيذ، فنفذوه برضا، ليبدلهم الله خيرا من دورهم وأهلا خيرا من أهلهم في المهاجر الذي هاجروا إليه والذي آخوهم وشاركوهم الأموال، ورضوا أن يكونوا أعوانا على ما آمنوا به، ولم يعد كثيرهم إلى موطنه بمكة حتى بعد أن أصبحت دار إسلام، فتمسكوا بالأرض التي أمنوا فيها على دينهم ولم يخسروا دنياهم، فالدين أثمن ما في وجود الإنسان والحفاظ عليه وصونه واجب المؤمنين به في كل عصر وأوان، وتعلمنا بعد أن عم ديننا أرض الجزيرة العربية، ثم عمّ الأرجاء حتى بلغ أقاصي الدنيا أن الهجرة إنما هي هجر ما نهى الله عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم “المهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، وهذه هجرة باقية حتى تقوم الساعة والمعلوم أن ترك المحرمات هو الألزم في شرع الله، به يعرف المؤمن بهذا الدين من غيره، وهو ذا سلم من إتيان المحرمات فتح له الباب الأعظم في الجنة، أليست هي من حفت بالمكاره، بينما النار قد حفت بالشهوات، فضبط النفس عن ما حرم الله لا يستطيعه منا إلا من قوى إيمانه، وتعلق قلبه بالله عز وجل، وأحب إمام رسله وخاتم أنبيائه وسيد خلقه، فما أحبه إلا من أحب الله، وما أحب الله إلا من أحب نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، والنهي هو امتناع فقط، لهذا فقد فارق الأمر الذي منه ما أوجب الله واستحب ولذا قال سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه ” ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم”.
ودروس الهجرة لا تحصر وستظل مع تطاول الزمان معينا لا ينضب من العبر والدروس، واحتفاؤنا بذكراها مشروع لا يحرمه نص في كتاب الله ولا في سنة رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم- ولم ينقل عن علماء الأمة في عصر من عصورنا الإسلامية الإجماع على تحريمه، والاحتفاء أو الاحتفال بالذكرى لا يقول عاقل إنه عبادة لله، بل عادة إنسانية مهمة، فهذه الأمم من حولنا تحتفي بمناسباتها دون أن تحول ذلك إلى عبادة، وتحويل المناسبات التاريخية إلى عبادات دينية لا يتصوره أحد في هذه الدنيا سوى بعض منا، وإذا كانت المناسبة تاريخية حتى ولو كانت تشير إلى حدث ديني لا يعني أن تذكرها عبادة لها، وأما أن من سبقونا تركوا ذلك، فلكل زمن أعرافه اسأل الله أن يعيد هذه المناسبة على المسلمين كلهم وهم في عزة وانتصار على أعدائهم إنه سميع مجيب.
Tags الحدث الحكم الذكرى الهجرة
Check Also
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …