حينما كنا نتحدث عن الهوية الوطنية التي تعزز الانتماء إلى الوطن، وتربية أبنائنا على حب الوطن والدفاع عنه، وأن تمتلئ نفوسهم به، حتى يكون همهم رقيه وتقدمه، كان هناك من يحمل علينا ويرى أننا نبتدع، فالهوية كما يزعمون ليست للوطن وإنما للدين، وكأن الانتماء إلى الوطن يتعارض مع الانتماء للدين، وكلاهما حلقتان في دائرة واحدة، فالإسلام دين لا وطن، وللإسلام وطن شع منه نوره على سائر بقاع الأرض، وسيأرز إليه في آخر الزمان يحتمي به، وهو وطننا الغالي، الذي منّ الله علينا أنه موطن الإسلام، منه خرج وإليه يؤول، وحينما طالبنا بالتربية الوطنية في مدارسنا لنعزز انتماء أبنائنا إلى وطننا، يعملون من أجله، ويبذلون الغالي والنفيس في الذود عنه، اشتد علينا الهجوم، حتى كاد البعض أن يخرجنا من الملة، وصبرنا لأننا نعلم يقينًا ألا يحمي الدين والوطن معًا إلا من انتموا إليهما من أبناء وطننا الغالي، وحتمًا اعتزازنا بوطننا وانتماؤنا إليه لا يعني أننا نعزل أنفسنا عن إخواننا من العرب أولًا ثم المسلمين ثانيًا، فإخاء الدين غريزة راسخة في نفوسنا منذ اعتنقنا هذا الدين وأخلصنا له، وقد قلنا مرارًا وتكرارًا ألا تحريم إلا بنص، ولا نص يحرم على أبناء الوطن أن ينتموا إليه، وأن تكون لهم هوية وطنية يحمونها ويدافعون عنها، وأن التوهم بأن الهوية الوطنية تعارض الدين إنما هي أوهام لا تستند على دليل ولا واقع، وأمم الأرض كلها لها هويات وطنية ولم تتخلَ عن أديانها، كما أن الوحدة الوطنية بين سكان البلاد على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم ضرورة حتمية لدفع الأذى عن الوطن وأهله، والتعايش بينهم لا بديل عنه لصون الوطن وأهله، وكل دعوة للتفريق بينهم إنما هي عداء لهذا الوطن، وعداء لأهله صريح.
واليوم وقد شعرنا بخطر هذا الإرهاب البشع، الذي تقوم به جماعات جهلت الدين ولم تعرف الحياة، وزعمت بأن إراقتها للدماء وسلبها للأموال واعتداءها على الأعراض وإشاعتها الفوضى في البلاد إنما هو بزعمها الفاسد صون للإسلام وإقامة لدولة خلافته المفقودة، وحاشا لله أن يتم خيرًا بشرٍ، وأن ينصر دينًا بما حرّم فيه، رأينا من كانوا يهاجموننا من أجل الهوية الوطنية يدعون إليها اليوم، فحمدنا لهم ذلك، ورجونا لو اعتذروا عن ما كان منهم من قبل، بعد أن أدركوا أن صون الحياة في هذا الوطن إنما يكون بتعزيز الانتماء إلى هوية وطنية جامعة، وتربية وطنية منذ الصغر على حب الوطن والدفاع عنه.
ولعل هذا بداية العودة عن كثير من الأفكار المغلوطة التي ترتب عليها خصومات لا داعي لها، وجدل عقيم تضيع به الأوقات، ولا يورث سوى بغضاء بين أخوة وطن ودين واحد، فالعودة عن الخطأ والباطل فضيلة توجب الإشادة بصاحبها واحترامه، بينما الإصرار عليهما رذيلة يتبرأ منها الفضلاء والنبلاء.
ولاشك أننا في الوطن ابتلينا ببعض من يتعصبون لتياراتهم وطوائفهم ومذاهبهم، ويشتدون على مخالفيهم حتى تنشأ بينهم العداوة والبغضاء، وأصبحنا نقرأ هذا في الكتب ونسمعه على المنابر وتشيعه اليوم وسائل التواصل الاجتماعي.
والرأي الواحد الذي أرادت جماعة منها إشاعته ثبت الآن أنه المستحيل، وأن تنوع الآراء والأفكار يخدمنا ويخدم حياتنا، في هذا الوطن، إن أردنا فعلًا صونه وصون ديننا معًا، فهل نحن مدركون لهذا؟ هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.