بين التقليد والإبداع

في بداية النهضة اليابانية كان يُبْعَث شبابهم إلى أوروبا، يتعلّمون ويطّلعون على مختلف السلع الصناعية، ثم يحاولون تقليدها، حتى إذا تدرّبوا على أن يحكموا التقليد استطاعوا أن يدركوا سر الصنعة ويتشرّبوها، ثم أن يبدعوا خيرًا ممّا قلّدوا، فإذا بهم أمة متقدمة، فيها من المبدعين ما نهضوا بها في شتّى المجالات. وإذا قسناهم بما حدث في بعض بلاد العرب، ومنها بلادنا، وجدنا أن حتى التقليد لصناعات الغير وأفكارهم لم ننجح فيه، فكيف لنا أن نبدع شيئًا لم يسبقنا إليه أحد. إننا حتى في أساليب اللهو من ألعاب وغيرها لم نستطع تقليدها، وكمثال لذلك فن التمثيل، فما تعرضه علينا قنواتنا، حتى ما يعتبره الناس في بلادنا ممثلاً مبدعًا، لم ينجز تمثيلية، أو مسلسلاً، أو مسرحية ترقى إلى أن تكون تقليدًا لمن أبدعوا هذا الفن وطوّروه، والذين يكتبون لمثل هذا الممثل يعرضون عليه ما يمكن أن يكون حديث مجالس للعبرة، يتناقلها رواة المجلس ليعرضوا من أحوال الناس ما يحزنوا له، أو يُسرّوا، فلا حبكة قصصية، ولا حوار راق ممتع يجعل المشاهد يتابعه بحماس، كما هو المنتج الأجنبي الذي يقلدونه، فإذا تجاوزت ذلك إلى ألوان أخرى من الأنشطة الفكرية في مختلف جوانب الحياة صعقت، وأنت ترى مقلدينا في شتّى مناحي الحياة الفكرية، فالنقاد الأدبيون لا تجد بينهم مقلّدًا بشكل جيد لمن اختاره من نقاد الأدب في الغرب مثلاً، أمّا المبدع منهم فنادر جدًّا، وتذهب إلى جامعاتنا فلا تجدها قدمت لنا في مختلف التخصصات مترجمًا جيدًا ينقل إلينا العلم والخبرة في مجال تخصصه بشكل جيد، أمّا المبدع منهم فهو النادر جدًّا، وأتساءل دائمًا -وأنا أسمع متحدثًا على شاشة القنوات العامة والخاصة، وهي تقدّمه محللاً رياضيًّا، أو اقتصاديًّا، أو اجتماعيًّا- ألم يستطع هذا حتى تقليد الناجحين في فنه خارج الوطن؟
وطبعًا هذا لا يعود إلى أننا أقل قدرات عقلية أو ذكاء، فنحن كسائر البشر فينا الأذكياء جدًّا، والأغبياء جدًّا، وبينهما درجات عديدة يُستفاد منها لو تلقّت تعليمًا جيدًا، ولكن عندما يغيب التعليم ذو الجودة العالية، لا يُستفاد ممّن هو في القمة خارج هذه الدرجات، وهم المبدعون في الحقيقة، فهؤلاء هم مَن يهملون في شتّى القطاعات، ولا يجدون لهم مكانًا بين من حشدوا خلالها في متدنى المواهب، الذين يحتلون حتى مقاعد القيادات في شتّى المجالات، فعدم رعاية الموهوبين حتى ينهوا دراساتهم، ليكونوا عدة المجتمع في مستقبل حضاري آمن ورّط مجتمعاتنا العربية في ركود فكري، أدّى إلى تشوّهات يلحظها كل مراقب لما يجرى في مجتمعاتنا، وهو الذي لابد من أن ينتهي كوضع سائد عطّل مجتمعنا للحاق بمجتمعات المتقدمين في هذا العالم، وجعلنا تبعًا لها دون تبصّر، حتى أننا عجزنا عن التقليد قبل الإبداع.
ولننهي هذا الوضع فلنطلق حملة وطنية لإعادة النظر في جميع منظوماتنا التعليمية وخططها المنهجية، ولنعرض المعلمين على دورات متلاحقة للاستعداد للعمل بخطة جديدة في التعليم تعتمد صناعة الإبداع، بعيدًا عن مناهجنا القديمة التي طبعت تلاميذنا بطابع التلقّي فقط، وعدم المشاركة الفاعلة في التعلم، ويوم نجد منظومة للتعليم جديدة يتخرّج منها أصحاب المواهب يبدعون في كل مجالات الحياة، فإنا سنحقق التقدم الذي حققته أمم قبلنا؛ لأنها دومًا تراجع منظومتها التعليمية والتربوية باستمرار، وتصلح ما يطرأ عليها من أخطاء، حفاظًا على مواهب أبنائها؛ لأنهم مستقبلها، ولعلنا نفعل.. فذلك أجدى.. والله الموفق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: