إن تبادل العفو بين من يسيئون إلى بعضهم سلوك طيب, لو أنه انتشر فلعله يساهم في الحد من هذه الظاهرة الرديئة
الناظر المنصف الى الشريعة الاسلامية سيجد أن أحكام العقوبات المقدرة وغير المقدرة إنما جاءت لتحفظ لعباد الله دينهم وحياتهم وأعراضهم وأموالهم لتستقيم لهم الحياة ويأمنوا في الدنيا ثم في الآخرة, فشرع الله عقوبات محددة كما نعرف, فشرع القصاص, وجعل فيه الحياة لأولي الألباب, فمن قَتل يُقتل, ومتى ما علم الناس كفّوا عن القتل, وضم الى ذلك عقوبات اشد في الآخرة وشمل القصاص من اتلف لغيره عضواً متعمداً قطع منه المناظر له من جسده, وذلك لحفظ الحياة كما ان الامر بأكل الطعام والتداوي حين المرض من أجل ذلك, فكان الشرع قد حفظ حياة الناس بذلك من الجانبين السلبي بالقصاص, والايجابي بالأكل والشرب والتداوي, وحرم على الانسان ان يضر نفسه, وشرع الديات حين العدوان الخطأ او شبه العمد على البدن والاعضاء. ليحفظ هذه الحياة التي هي حق للانسان يجب ان يوفر له, بمنع الاعتداء على روحه وبدنه, وشرع الحدود لمنع العدوان على الاعراض بالزنا واللواط والقذف من جانب السلب وحثهم من باب الايجاب على العفة وحفظ اللسان, حتى لا يعتدي احد على احد, فيقع بين الناس التنازع ثم الكراهية والبغضاء او لا سمح الله الاقتتال, وشرع حدين للعدوان على الاموال, فجاء حد السرقة بقطع يد السارق, وجاء حد الحرابة لمن يعتدي على الناس ويرهبهم بالسلاح ويأخذ اموالهم, وهي عقوبات شديدة, وهذا من الناحية السلبية, وأما الايجاب فقد أمرنا ربنا بالعفة وشرع لنا الزواج لنكف عن الشهوات المحرمة, وجعل له ثواباً عظيماً, وامرنا ان ننتشر في الارض ونكتسب المال لنحيا حياة طيبة ويكون لنا من الاموال ما تستقيم به حياتنا, وشرع حد شرب الخمر ليكف الناس عن تناول كل ما يزيل عقولهم ما نص عليه وما لم ينص, وحثنا على التعلم لننمي عقولنا, وبدون هذا فالحياة تضطرب اذا اختلت هذه الضرورات الخمس او الكليات الخمس, وما عدا هذا من الجرائم له عقوبات التعزير, وهذا من محاسن هذا الدين الحنيف, وهذا هو قانون الشرع, وظاهرة السب والشتم واللعن الذي انتشارها اليوم ظاهر لكل ذي بصيرة في كل المجالات, حتى كأن الناس لم يعد بينهم من يصون لسانه عن ذلك, واذا كان هذا الخطاب الكثير السوء بين عامة الناس, فإنها بين بعض من يزعمون انهم الوعاظ والدعاة والمعلمون والمثقفون, فالامر جد خطير, لان هؤلاء لهم تأثير في كل افراد المجتمع, فانت اليوم ترى ما بين بعض دعاتنا ووعاظنا من تنابز بالألقاب, وكل ما اختلف اثنان سلط كل منهما لسانه على الآخر بالسباب والشتم, وانت ترى بين بعض المعلمين ما يجري بين بعض الدعاة والوعاظ وبعض المثقفين ايضاً اصبح هذا الخطاب بينهم شائعاً, ولان الدعوة الى العودة الى فضائل الاخلاق التي بعث بها سيدي رسول الله, صلى الله عليه وسلم, وما بذله العقلاء من جهد في هذا السبيل لم يأتِ بثمره لتعف الألسنة عن هذه البذاءات التي تجري عليها كل يوم في أدبيات البعض, في كتاباتهم وحواراتهم وعبر الاعلام وكل وسائل التواصل الاجتماعي, وما قصة رفع الشيخ الدكتور عيسى الغيث الدعوى على من أساء إليه بمثل هذه الألفاظ إلا دليل على ما وصل إليه الحال, وأيدناه حينما قاد حملة لمكافحة الشتم والسباب ورجونا أن ينضم إليه كل العقلاء, فما بقي الحال على ما هو عليه إلا وتعرض مجتمعنا لأخطار جمة, وطبعاً من المعلوم أن تبادل العفو بين من يسيئون إلى بعضهم سلوك طيب, لو أنه انتشر فلعلّه يُساهم في الحد من هذه الظاهرة الرديئة, ولكن بعض الخلق لا تردعه عن الشر إلا العقوبة, لذلك عدد الشرع العقوبات ليردع بها من لا يطيع إلا عبرها, ولان عرض المسلم شرع الله لحفظه أمرين أولاً بما أرشده الله في كتابه وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله إلى فضائل الاخلاق, والتي استجاب لها الرعيل الاول من المؤمنين بهذا صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واذا لم يجد الحث والارشاد شرع الله العقوبة الرادعة حدًا بجلد من انتهك عرض أخيه ثمانين جلدة في مجتمع الناس, حيث يقول عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهذا الحد فيمن اتهم احداً بالزنا او اللواط فلم يستطع اثبات انه فعل ذلك, والعقوبة متعددة «الجلد وعدم قبول شهادته بعد إنفاذ العقوبة, ولعنه ثم العذاب العظيم له في الآخرة لشدة جرمه», وأما من قذف غيره بغير الزنا واللواط فعقوبته تعزيرية, فمن يتهم احداً بالكفر فالكفر اعظم من الزنا, ويجب ان يعاقب بما يرده عن تكفير الناس وهم مسلمون ومؤمنون, كذا من يتهمه بالفسق او البدعة وبكل ما يسيء اليه ويشهر به, فالعقوبة يجب ان تكون رادعة حفاظاً على امن المجتمع وسلامته فاذا غابت الاخلاق وجب انفاذ العقوبات الرادعة, ويعيننا في هذا الباب ايضاً نظام مكافحة جرائم المعلوماتية, والذي فيه عقوبات رادعة على من يشهر بالآخرين ويلحق الضرر بهم عبر وسائل تقنية المعلومات المختلفة, وحينما تطبق العقوبات الشرعية على كل من انحرف عن قيم الدين واخلاقه وعبث بأعراض الناس فإنها ستردع بعض الذين يمثلون اليوم اسوأ ظاهرة في المجال الدعوي والوعظي والثقافي وتبقى ساحاتنا نظيفة نقية, فهل نفعل؟! هو ما أرجو, والله ولي التوفيق.