لا أحدَ يشك في أن مَن لا يعلم علمًا من العلوم، لا يصحُّ عقلاً أن يتصدّر للحديث فيه وهو يجهله، فقد قال أهل العلم منذ القديم: مَن تحدّث في غير فنّه، فقد أتى بالعجائب، وما أكثر عجائب زماننا تترى علينا حينًا بعد حين، وقد ابتلينا في هذا الزمان بمَن لا علم له بعلوم الشريعة كافة، لم يتعلّمها، بل لعلّه ينكر أن فيها علومًا معتبرة، وهؤلاء يهرفون بما لا يعرفون، وخطرهم على المجتمع قليل؛ لأنّ بعضهم لم ينل شهادة حتّى في غير العلوم الشرعية، بل وبعضهم يلبس على الناس، ويزعم أنه حصل على درجة علمية هي «الدكتوراة»، وهو في الواقع لم يحصل عليها أصلاً، وإنّما زوّرت له، أو ما نسمّيها الموهومة، وهي -للأسف- في عالم العرب منتشرة، والذين يثيرون الجدل حول عقائد الإسلام وشرائعه بالتشكيك، أو الإنكار، جلّهم لا علم لهم بعلوم الشريعة كافّة، إلاَّ إنْ كان ما درسوه في سني التعليم العام، ولم يبق في أذهانهم شيء منه، بعد أن تخصّصوا في علوم أخرى، ثم عملوا في مجالها، ولكنّهم يظلّون يخادعوننا، ويخادعون أنفسهم أن البحث في علومهم التي تخصّصوا فيها مثل البحث في العلوم الشرعية (الدينية)، وحتمًا الأمر ليس كذلك، والأساتذة الجامعيون في مختلف تخصّصاتهم لهم الاعتبار فيما تخصصوا فيه من العلوم، وقد يتفانون في علمهم بالعلم الذي تخصص كل واحد منهم فيه، لأنّهم بشر يختلفون في القدرات والمواهب، ولكن إذا تحدّث الأستاذ الجامعي، خاصة اليوم في وسائل النشر الحديثة (وسائل التواصل) عبر الإنترنت التي يطلع عليها الكثيرون كل يوم في أمر ما في غير تخصصه قد يظنّه العامّة حقًّا، وكمثال أحد إخوتنا من الأزهر تحدّث عن عذاب القبر، فذكر كلامًا غريبًا بأن عذاب القبر ليس لنا، وإنما لغيرنا في كلمات غامضة، فنبهته إلى أنّ ما يقوله ليس صحيحًا، فعذاب القبر يثبته أهل السنة بأدلة من الكتاب والسنّة، وهو من جزئيات عقائدهم، وإذا بأستاذ جامعي غير متخصّص في هذه العلوم الشرعية يقول: (أحسنوا الظن بالله، وسكّروا الباب، لأن الجدل بعد الموت عقيم، عقيم، عقيم)، والغريب أن العبارة لم يحسن تركيبها ليُفهَم عنه ما يقول، فالظن بالله حسن إذا أثبتنا ما جاء في النصوص الشرعية، وأمّا الجدل بعد الموت فإننا منتظرون معه حين نلتقي في الآخرة، هل سيحدث جدل، أم أن الجدل ينقطع آنذاك، فعاود الكتابة قائلاً: لا أتحدّث عن شخص، بل عن خطاب عام يتيه في الضلالات المعرفية، وهذه الضلالات المعرفية في نظره هو ما أثبته أهل السنّة بالأدلة من حدوث عذاب القبر، فعلمتُ يومها أن الاتّهام بالضلال مذهب لأهل الغلو، والتطرّف في الجانبين، الذين يقودهم الجهل بدينهم إلى غلو في الدِّين، يبعث على التشدّد، وقد يؤدّي في النهاية إلى التكفير، وقبله حتمًا التُّهمة بالضلال وهو كثير نشكو منه، ومَن يتطرّفون في الجانب الآخر ما أن يجدوا عبارة عن الدِّين فيها ثناء عليه، إلاّ وانحرفت أمزجتهم، وهاجموا مَن فعل ذلك، وكأنّ بينهم وبين الدِّين عداءً، ومن ذلك هذه الضلالات المعرفية التي لا أشكُّ لحظةً أنّها لن تستبقي شيئًا من الدِّين، وكأنّه وحده الذي أنعم الله عليه بالهدي المعرفي، ولعلّ البسطاء أمثالي ممّن تخصَّصوا في العلوم الشرعية، يملكون من الهداية لأنفسهم ما سيقرّبهم -بإذن الله- إلى ربّهم، ويجعلهم أيضًا أقدر على هداية الخلق بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو أننا استطعنا أن نحترم الآخر المختلف لما وجدنا مثل هذه العبارات النافرة، التي غالبًا ما تؤذي صاحبها إذا كان ذا ذوق سليم، فمَن رددتُ عليه كان يشاركني نفس التخصص، ولم أزد على التنبيه: أن إثبات عذاب القبر من عقائد أهل السنّة، لعلمي أنَّ مَن أردُّ عليه منهم، ولستُ ممّن يكفّر أحدًا بذنب، والمعتزلة ينكرون عذاب القبر، ونحن لا نكفّرهم بذلك، وأهل السنّة يردُّون عليهم، ويناقشون ما ظنّوه أدلةً على عدم القول به، وقد يتجاوز المختلفون في الألفاظ أحيانًا كما نختلف، ولكن قضية التكفير لا يبلغها العقلاء إلاَّ إذا ورد بها نصٌّ قطعيٌّ، وفي النهاية أقول: اللهمَّ اهدنَا إلى الحق، وثبّتنا عليه، واغفر لإخواننا، وردّهم إلى الحق، إنّكَ الرحيم الرؤوف بنا وبهم.