حينما تعرَّفتُ على أخي الفاضل محمد درويش رقام، قبل سنتين تقريبًا، كنتُ أسمع عنه، وأقرأ له ذكريات عن جدة، المدينة التي يعشقها، ويعشق الحياة فيها داخل السور، حينما كان يحيطها كباقي مدن الشرق في الماضي، ويجعل للحياة داخلها نكهة خاصة يتذوّقها أهلها المُحبّون لها، فقد عاش في المدينة، قبل هدم السور، ما يقارب واحدًا وعشرين عامًا، فهو من مواليد عام 1347هـ، والسور هُدم في عام 1366هـ، وكان -رحمه الله- يحبُّ موطنه «جدة» حبًّا عظيمًا، ويعشق الحياة فيها، يعتز بعاداتها وتقاليدها، تختزن ذاكرته تاريخها عبر سني عمره المديدة، تستمع إليه وهو يسرد ذكرياته عنها، وكأنّك تسير إلى جواره في أزقتها وساحاتها، وتمر ببيوتها وتتعرّف على سكانها، وتتعرّف على أنشطتهم اليومية فيها، وهي مدينة صغيرة يضمها سور يُظن أنه يمنع الشرور عنها، وبعد هدم السور يأخذ بيدك ليُخبرك عن كل تطوّر نال جدة، عمرانيًّا واجتماعيًّا. أمضيتُ معه شهورًا نتجوّل لا في جدة وحدها، بل ومكة، ونتشارك أحيانًا ذكريات واحدة، عندما التحقت به سنا، وكان -رحمه الله- عذب الحديث، أقنعني أن أقوم بكتابة ذكرياته في كتاب أصدرناه في عام 1434هـ، بعنوان جانبي: «ذكرياتي: محمد درويش رقام»، وعنوان رئيس: «جدة داخل السور»، قُدِّر لهذا الكتاب أن يحفظ ذكريات هذا الرجل العاشق لمدينته، المُحب لأهلها، المُعتز بتقاليدهم وأنماط حياتهم، حتّى أني كنت أشعر في كثير من الأحيان، أن استمرار حياته مرتبط أشد الارتباط بما يختزنه عن هذه المدينة من الذكريات، وكم أمضينا ساعات يحملني معه إلى ماضي جدة العريق، ويذكّرني ببعض ما اختزنته أنا عنها منذ الصغر، في زيارتنا لها مع الوالد، ولقاء أصدقائه فيها، فكان ما نقوم به عملاً له ذائقته الرائعة بيننا، ولمّا بلغني خبر وفاته كنتُ أرقد على السرير الأبيض في المستشفى لأزمة صحيّة حادّة مررتُ بها، فحزنتُ أشدَّ الحزن لوفاته، وتمنيتُ لو كنتُ أستطيع أن أشارك في وداعه، والوصول إلى داره، الذي تعوّدت زيارته أثناء حياته، لأقدِّم العزاء لأنجاله، وكافّة أسرته، وإني لأقدِّم العزاء للوطن كله، ولـ»جدة المدينة» وأهلها، فهو رمز من رموزها، ولا شكّ له قدره في جمع المعلومات عنها، وعن تطوّرها، وقد أسعدني الحظ -بحمد الله- بصحبته أشهرًا أفدتُ من مخزون ذكرياته، وأنا من استوطن جدة بعد أن اضطرتني ظروف أبنائي، وإن كنتُ لا أعدل بمكة موطنًا، وأسأل الله أن أستبقي من صحتي ونشاطي ما يجعلني أوالي زياراتي لها الأسبوعية ما أمكنني ذلك.
رحم الله أخي محمد رقام، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه الصبر على فقده، وأثابهم على ذلك.