كل من يعلم أحكام الفقه، يعرف أن أكثر القضايا التي لم يرد فيها من الشارع الحكيم حد ولا قصاص، أي عقوبة مقدرة شرعًا هي ما تكون عقوبتها تعزيرية، فالتعزير عقوبة شرعية ثابتة، لم يقدر لها الشرع حدودًا، وإنما تركها لاجتهاد الحاكم الشرعي، وهي المجال الذي للاجتهاد فيه مسرح، ويمكن لأهل العلم أن يجتهدوا فيها لوضع عقوبات رادعة لكثير مما يرتكبه الناس مما يدخل في نطاق الجرم أو الجريمة أو كل ذنب لم يقدر الله له عقوبة دنيوية، وهذه العقوبة لا حد لها في الشرع إنما حدها الأدنى التوبيخ، وقد يبلغ حدها الأعلى القتل لمن لا يندفع شره إلا بقتله، وهذا الباب أعني التعزير هو الباب الذي يعتمد عليه الفقهاء في وضع عقوبات للكثير مما يضر بحياة الناس من الأفعال والأقوال الضارة بهم، فإذا كان الله عز وجل أوجب حدًا لمن اعتدى على أعراض الناس فاتهمهم بالزنا أو اللواط هو حد القذف ثمانين جلدة مع ما قد يحكم به القاضي من السجن تعزيرًا، ولكن قد يُتهم أحد آخر بغير ذلك، بأن يتهم مثلًا بالكفر، وهي أشد انتقاصًا للإنسان من يتهم بما هو دونه، فكانت العقوبة هنا واجبة تعزيرًا، ولكن التعزير ظل على طول الزمان يعتمد على اجتهاد القضاة يقدرون العقوبة بما يردع الناس عن الفعل أو القول الذي حرمه الله ويضر عباده، وبقدر ضرره يقدرون العقوبة، ولكن مع الاجتهاد تتفاوت العقوبات على الفعل الواحد، لذا فإني أدعو إلى أن يجتهد علماؤنا لوضع عقوبات على الأفعال والأقوال المحرمة وذات الضرر العظيم على المجتمع وأفراده، ويدونون بذلك مدونة يلاحظها القضاة عند الحكم على هذه الأقوال والأفعال، ولنضرب لذلك المثال: في المجتمع فئة ترفع على خصوم لها تختلف معهم قضايا في المحاكم فيها من التهم ما لو صح أن الخصم أتاها، لأدى ذلك للإساءة البالغة إليه، ولانتقصه الناس بذلك وساءت سمعته، كأن يُتهم مثلًا إنسان بالسرقة من مال ميراث هو يشرف على توزيعه على المستحقين، أو ناظر وقف أنه سلب بعض مال الوقف، ثم لا يثبت ذلك عليه، ويتضح للجميع أن الدعوى إنما هي دعوة كيدية أراد بها الخصم الإضرار بخصمه مع ما أتى به من هدر وقت المحاكم في قضايا لا يتحقق فيها عدل ولا تسترد بها حقوق، وينتصر في هذه القضايا من قصد الإضرار بالخلق، ومثل هذه القضايا أقصد القضايا الكيدية لا يمكن منعها إلا بعقوبات رادعة، يجتهد فيها علماؤنا من قضاتنا وغيرهم من العلماء ليمنعوا الناس عن الاشتغال بإضرار بعضهم لمجرد خصومات لا يترتب عليها في مجال العدل والحقوق أي شيء، ولن يتركها الناس إلا إذا وجدوا عقوبات تردعهم عنها، ولتكن العقوبة بقدر ما يقع منها من ضرر على الناس، لا أن يصرف القاضي النظر في دعوى المدعي بعد عدد من الجلسات كبير قد يستمر شهورًا إن لم نقل سنوات، ثم يتضح أن من أقام الدعوى لا يملك أي دليل على دعواه، ثم يفض السامر فلا يعاقب من ادعى على غيره ظلمًا وعدوانًا، ولا يعوض من اتهم ووقع عليه الضرر بشيء حتى ولو كان بما يزيل غضبه ممن اتهمه دون بيّنة، وأرى أنه لا بد من اجتهاد يقطع دابر هذه القضايا الكيدية، التي تكثر في هذه السنين في المحاكم حتى إن بعض المترددين عليها لا وظيفة لهم إلا رفعها ومتابعتها حتى ولو كان بتوكيلات عن الغير، وأظن أنه حان الوقت ونحن نتطلع للإجراءات التي تجري لتطوير القضاء، أن نجد مدونة للتعزيرات تحدد عقوبات رادعة لكثير من الأفعال والأقوال المُجرّمة ولا حد لها ولا قصاص، ومنها هذه القضايا الكيدية التي تشغل محاكمنا عن أن تقوم بمهمتها الأساسية في الفصل في الخصومات الحقيقية لا المفتعل منها للإساءة لمن لا نحب أو نخاصم دون أن يكون لنا دليل على ما تخاصمه به، وإنا في الانتظار، سائلين الله عز وجل التوفيق لقضاتنا لما يقومون به من عمل لتوفير العدل للمتخاصمين.