لا يحمي الإنسان من الاعتداء معنوياً على إخوانه من البشر، سواء شاركوه في الوطن أو كانوا من أمته يشاركونه اللغة والدين والتاريخ كالعرب والمسلمين، إلا أن يكون ذا أخلاق حميدة، ولا يغيبن عن الذهن أن خير الفضائل ما جاءت بها رسل الله، وخيرهم وإمامهم سيدنا رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. وبخبرتي الطويلة في الحياة لم أجد أحداً يحافظ على هذه الفضائل مثل المتدين حقيقة، أي من يتبع ويقتدي بسيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو وحده الذي يحافظ على هذه الفضائل لأنه يرى المحافظة عليها وتأثيرها في سلوكه عبادة خالصة لربه، وهو يسعى عمره كله أن يكون ما بينه وبين ربه عامراً، وحينما يفقد الإنسان هذا التدين كلية فإنه مهما كان سلوكه حسناً، فلن يكون هو الصالح الذي تأمن معه إذا انتقد أن يكون نقده نزيهاً، لا يريد به إلا وجه الله تعالى، وهو مَن يُقدِّم النصح للناس دون أن يفضحهم، وهو يرجو لهم الخير لا الشر، ولا يريد بنصحه منهم جزاءً ولا شكوراً. وقد مضى بي العمر وأنا أُلاحظ الناس وأختبرهم إذا اقتربتُ منهم، فأرى أصلحهم أتقاهم، ورأيت ممن يتخلون تدريجياً عن دينهم الكثير مما لا يرضاه الخلق، حتى أنهم يطمئنون إلى أعدائهم وأعداء الدين، ولا يطمئنون لإخوانهم في الدين والوطن، وهذا أمر عجيب، أراه اليوم واضحاً بين الناس.
ولما هجم أعداؤنا علينا في قضية الأستاذ جمال خاشقجي -يرحمه الله- رأيت الذين يهمسون بأفكارهم في الداخل هم من الصنف الذي يتخلى عن قِيَم دينه بسهولة، ورأيت أكثر المتدينين حقيقة هم من يقفون مع الوطن صادقين، وأنا لا أقول عمن يحاول إظهار التدين، ولكنه لا يلتزم بالعدل، ولا يمتنع عن ظلم الناس واغتيابهم إنه متدين، ولا أعتبر مَن يأكل المال الحرام متديناً وإن أظهر ذلك، ولو حفظ كتاب الله، وظل يتلو آياته واعظاً في المجالس، وأنا على يقين بأن تدينه ستار لمعاصيه، وكم من صديق من هذا اللون تجنبته ولم أثق به، ولكن المتدين المتمسك بدينه خوفاً وطمعاً في رحمة ربه، فهو هذا الذي أراه إن نصح أخلص، وإن نقد تنزَّه عن الغرض، وهذا الصنف سادتي -وإن كانوا قلة- هم ممن يجب أن نتيح لهم الفرص للنصح والتوجيه، إذا حصَّلوا العلم الدنيوي والديني، وتفوَّقوا فيه. فلا مجتمع -سادتي- يستقر ويتقدم، إذا كان النقد في ثقافته مفقوداً، فالنقد البنّاء هو وسيلة كشف الأخطاء في المجتمعات، والناقدون المخلصون هم ولاشك العملة النادرة في زماننا، ولكن البحث عنهم وإتاحة الفرصة لهم أن ينتقدوا وأن يوضعوا مواضعهم، هو جهدٌ يجب أن يُبذَل حتى يُوجَد هؤلاء وننتفع بهم.