لا تقتصر العهود على المواثيق المكتوبة، بل لكل علاقة بشرية راقية عهد يجب الوفاء به.. بل كل ما في الحياة من حرف وأعمال يرتقي بها الوفاء وينحدر بها انعدامه
الوفاء خلق عظيم لا يتصف به إلا عظيم، فقد وصف الحق تبارك وتعالى به نفسه، وأخبر أنه تعالى لا يظلم مثقال ذرة حيث يقول: “ولكل درجات مما عملوا وليوفهم أعمالهم وهم لا يظلمون”، ووصف أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام فقال: “أم لم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفّى”، ومدح سيدنا إسماعيل عليه السلام بالوفاء فقال: “واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا”، وهو خلق سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي سماه قومه الأمين لشدة وفائه بما اؤتمن عليه، بل كان أوفى الأوفياء لزوجه أم المؤمنين خديجة حيث كان -عليه الصلاة والسلام- يبرّ صاحباتها بهديته وإحسانه وكان يقول: “إنها كانت تأتينا أيام خديجة”، والوفاء واجب شرعي لا يباح للمسلم التخلي عنه، كما يظن كثير من الناس أنه خلق فاضل يأتي به من يشاء ويتركه من يشاء، فالله عزوجل يقول: “وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها”، ويقول: “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا”، بل الوفاء صفة لأهل الإيمان فالله عزوجل يقول: “والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون”، وليست العهود تقتصر على المواثيق المكتوبة، بل لكل علاقة بشرية راقية عهد يجب الوفاء به، فعقد النكاح عهد يلزم الزوجين كلًا منهما أن يفي لصاحبه، يصاحبه في الحياة بخير ما يصاحب به بشرًا له علاقة به، فعلاوة على الحقوق فهو مطالب بما هو أعلى الإحسان إليه في كل حال، فالزوج المسلم إذا أحب اشتد وفاؤه، وإذا كره حفظ للعهد الوفاء فلم يكن منه ما يسيء به إلى زوجه، وحفظا معًا الفضل الذي كان بينهما، والصديق المسلم حقًا هو أعظم الناس وفاء لأصدقائه، يفي لهم وهو معهم وإذا غاب عنهم، ومن وفائه لهم أن يذب عنهم حال غيبتهم، فلا يصمت عما يعرف من فضائل إن تجرأ السفيه بذمهم، يسعى ما استطاع أن يسرهم، يوطئ الأكناف لهم ما عاش، وحق الصديق على صديقه هو أشد وجوبًا من الحقوق العامة للناس على الناس يزوره إذا مرض، ويمد له يد العون إذا احتاج إليه، يحفظ له الود وإذا توفاه الله تبع جنازته استغفر له ودعا له حينما يتذكره مخلصًا في الدنيا، ووفاء الموظف عظيم بأن يؤدي ما أوكل إليه من عمل بإتقان وإخلاص، يفي فيه لإخوانه المواطنين، حيث يعاملهم بالمعاملة التي يرضى أن يعامل بها عند غيره من الموظفين، ويترفع عن دنايا الأخلاق فلا يجعل عمله وسيلة للانتقام لمن كان بينه وبينه خصومة، والصحفي يجب أن يكون وفاؤه إخلاصًا لله ثم الوطن، لا يطرح من الموضوعات إلا ما يرى أنه ينفع الوطن والمواطنين، ومن الوفاء لمهنته أن يتجنب الفبركة لأخبار لم تقع، أو أن يصوغ الخبر صياغة تفيد البعض وتضر البعض الآخر، وأن يكون نقده نقدًا نزيها معتمدًا على معلومات صحيحة، يريد به الإصلاح، لا الإساءة لمن ينتقد تصرفاته وأن يكون عمله كله من أجل الإصلاح، وأما الكاتب الصحفي فوفاؤه لحرفته أن يحسن اختيار الموضوعات التي يكتب فيها، وأن تكون لهذه الموضوعات فائدة لقرائه ومجتمعه لا مجرد أن يملأ المساحة التي سمحت له المطبوعة أن يكتب فيها، وأن يكرر ما يطرحه الآخرون دون أن تكون لديه معلومات جديدة يضيفها، فإذا الصحف تمتلئ بالغث الذي لا فائدة له ولا أثر، وهكذا لو تطرقت لكل ما في الحياة من حرف وأعمال لوجدت أن الوفاء يرتقي بها، وعدمه ينحدر بها حتى تصبح ضارة بالحياة والأحياء، ذلك أن الوفاء خلق الكرام والغدر عمل اللئام فحرص الإنسان على أن يكون وفيًا حتى للجماد الذي يعيش فوقه ويتعامل معه، مما سخر الله له في هذه الأرض التي استخلفه الله فيها ليعمرها لا أن يدمرها، فإن فقد منه الوفاء كان كارثة على الحياة والأحياء، فهل نعي هذ، هو ما أرجوه والله ولي التوفيق.