وفي هذا العصر تعددت الجماعات التي اعتنقت فكر الخوارج، لتبدأ بالفجور في الخصومة مع من يختلف معها، وظهر تقسيم المسلمين ثم تصنيفهم..
كلام الإنسان قد يعود عليه بالخير كله, فيسعد به في هذه الدنيا وفي الآخرة يكون به أسعد, فالله عز وجل يقول (ألم تر كيف ضرب الله مثلًا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) فما أجله وصف للكلمتين الطيبة التي تسعد قائلها وسامعها, والكلمة الخبيثة التي تشقي قائلها وتكدر سامعها, وما أقل التزام الناس الطريق الذي يؤدي إلى الله, فما أكثر من يستعملون الكلمة الخبيثة في جميع الأوساط, حتى في أوساط طلاب العلم ومنهم من ينصبون وللأسف أنفسهم دعاة, الذين لا يتورعون عن كلمة سباب بغيض, وبذاءة تصنع عداء لقائلها في قلوب من يخاطبون بها من الناس خاصتهم وعامتهم, والناس لا يدركون أحيانًا ما للكلام من أثر عظيم على الحياة, فهو أحيانًا أحدُّ من السيف, فيصنع بين الناس عداوة وبغضاء تشق صف المجتمع المسلم ولهذا حذرنا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى, يرقى بها إلى أعلى عليين وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى يهوي بها إلى أسفل سافلين».
وليت المسلم ينظر إلى أن كلامه جزء من عمله فلا ينطق إلا بما يرضي الله, ويتحقق به الاتباع بسيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس ذلك خطبًا حماسية قد تعجب الناس, ولكنها مملوءة بالسباب والشتائم لمن اعتبره الخطيب خصمًا له, ولم يلتفت لكل نص حرّم ذلك, ولم نر اختلافًا فيه الحوار عار عن كل أدب له في الإسلام, وله قاموس مما حرم الله من سباب وفحش في الكلام وبذاءة لسان إلا فيما يزعم أنه ردود يدعي أنها غضب لله وما علم من فعل ذلك أن هذا مما يغضب الله ويرضي الشيطان, ولاشك أن في أسلوبهم هذا ليسوا علماء يعتد بهم ولا هم يمثلون من يدعون إلى الله, بل هم أبعد الناس عن آداب الإسلام وأخلاقه الذي بعث المولى عز وجل نبيه الرحمة المهداة, الذي لا يغلظ للناس قولًا, لأن من اصطفاه أدبه بأرقى أدب جعله- صلى الله عليه وآله وسلم- يقول «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق», وأمته التي بعث إليها أولاً, كانت أرقى خلقًا من الأمم حولها فلما آمنت ازداد رقي أدبها وأخلاقها, حتى إن من كانوا يدعون إلى الإسلام منهم في سائر أرجاء الأرض التي وصلوا إليها أقنعوا الناس بدينهم لقدرتهم العجيبة على انعكاسه على سلوكهم, ولأن الإسلام محاسنه أكثر مما تعد وهو يبني بأحكامه حياة الإنسان على أحسن منهج وأفضل قيم, وأغنى الفترات التي نهض بها المسلمون بالدعوة في العصر الراشدي, حيث غاب مثل هذا الخطاب الذي يتجدد اليوم, ولعلنا نجد بداية هذا الأسلوب السيئ للتخاطب عند كل اختلاف يوم ظهرت فرقة الخوارج, وظهر لأول مرة بين المسلمين أسلوب التكفير لكل من لم يكن على رأيهم ومنهجهم, وأخذ يتجدد لهم وجود عبر تاريخنا الإسلامي كله, وتعلقت جماعات تعددت بمذهبهم هذا التكفيري عند الاختلاف, ولما جاء هذا العصر تعددت الجماعات التي اعتنقت فكر الخوارج, تبدأ بالفجور في الخصومة مع كل من يختلف معها, أو تتصور أن أفكاره لا تطابق أفكارهم, وظهر تقسيم المسلمين إلى إسلاميين, وغير إسلاميين, ثم تطور الأمر إلى ظهور التصنيف لتجد هذه الجماعات لكل من تختلف معه فردًا أو جماعة أو يتصورون أن أفكاره ومنهجه تخالف أفكارهم ومنهجهم, ستجد له تصنيفيًا فإن كان في الصوفية شيء يعاب قالوا: هذا صوفي, وإن كان أحد يرى أن العروبة الوجه الآخر للإسلام, اتهموه بالقومية, ولبعض هذه الجماعات عداء دائم مع العروبة, ومن يميل إلى التحديث لوسائل الحياة في الوطن قالوا: هو حداثي.. ثم يأتي التصنيف بنوع آخر فكل متحدث عن الحريات فهو ليبرالي, وآخر هذه التصنيفات الشرك, والكفر والنفاق, وكل هذه تهم لا يستطيع المتهم بها تقديم البينة على ما يقول, ولا تردعه خشية الله, التي اختص بها العلماء حتى قال الله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء), فحصر الخشية في العلماء لأنهم هم من يجب عليهم أن يخشوا الله لمعرفتهم به وبرسوله- صلى الله عليه وسلم- وهذا الدين الحنيف, ولا ينتسب إليهم من لا يخشى الله, ويتهم كثيرا من الناس بتهم يعلم يقينا أنها ليست فيهم, وقد أخذنا العلم على عدد من العلماء متعددي المذاهب والأفكار, ورأيناهم جميعًا أكثر الناس خشية لله, يغضبون لما يعلمون أنه مما يغضب الله, لا يعرف أحد منهم هذا الأسلوب المرتكس إلى عصر لم يعرف أهله حقيقة الدين, وكان أحد من أخذنا العلم منهم لم يكن يعرف السب أو الشتم وإذا غضب على أحد من تلاميذه قال يا ابن الذين آمنوا, حمانا الله من فكر هذه الجماعات وأفعالها فهو ما نرجو والله ولي التوفيق.