إذا كان الزمان قد تغيَّر، فأصبح لكلمة الباطل جولة، فإنَّما هي ساعة، لتولد الحق إلى قيام الساعة، والذي قد تعجبه كلمة الباطل، ليرضي بها مَن يظنُّ أنَّ له سلطة عليه وَهْمًا، أو يظنُّها كما هو وَهْم الكثيرين في هذا العصر أنَّه الهجوم على علوم الدِّين، وعلماء الدِّين، لا في عصرنا، بل في الأعصار الإسلاميَّة كلِّها، أنَّه لون تنوير يجعل الأمَّة تتقدَّم، والذي يوافق صاحب الباطل إمَّا لأنَّه يظنُّ أنَّه له سلطان عليه، أو أنَّه ذو نفوذٍ في مجتمعه، قد يؤثِّر على حياته، وما علم هؤلاء أنَّ الله عادل، لا يأمرهم بإلقاء أنفسهم للتهلكة، فأحكم أحكامه، ولكن الإنسان قد يتوهَّم أنَّ الصمت دومًا ينجيه، ومن الصمت ما يوبقه، فالصامت عن الحق شيطان أخرس، والناطق بالحقِّ وإنْ أخطأ، فنجاته في الغالب مرجوَّة، ورغم أن الحديث الشريف يقول: «مِن أعظمِ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عندَ سلطانٍ جائرٍ»، وكلمةُ العدل هي ما وافقت حكم الشرع، ولم تتجاوزه أو تضاده، وإسرارها أولَى من إعلانها، ولمَّا كانت كلمة الحق مُرَّة، فلابدَّ أن تلبس بما يجعلها عند مَن يسمعها مقبولةً، لا إحراج فيها لمن ظلم جهلاً، أو تجاوزًا، أمَّا المخطئ بالظلم فيُبصَّر، وحتمًا أن تصل كلمة العدل لمَن يهمُّه أمرها خير من ألاَّ تصل، ومع وجود مَن يهمّه إشاعة كلمة العدل بين الناس، لا يُخشى على العدل أن يزول، أو يسود الظلم فيطمسه، وما وجدت الأمَّة من رجالها مَن يقول: كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، إلاَّ وانتشر العدل، وساد في المجتمع، وتقلَّص الظلم وانزوى، وهؤلاء الناصحون القائلون لكلمة الحقِّ والعدل، ليس من الضرورة أن يعلم الناس بهم، ماداموا يوصلون كلمة الحق لمن يستطيع إنفاذها، وكل مسؤول في الدولة عليه أن يمهِّد الطريق لهم؛ ليصلوا إليه، فإنَّهم أعوانه على الخير، الذين يوفِّرون له عرضه، ويمنعون عنه كلمة السوء، ما داموا أبرارًا ناصحين، لا يرجون على كلمة الحق أجرًا، أو جعلاً، وكلّ غايتهم أن ينتشر العدل، وأن يُمحى الظلم من مجتمعهم ما أمكن ذلك، وهذا -ولا شك- هو التعاون على البرِّ الذي دعا إليه ربنا بقوله: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، والعدل لا مثيل له في بناء الأمم، فما انتشر في أمَّة إلاَّ وعلا أمرها، ومالت إليها سائر الأمم، وما رغب الناس في الإسلام، ودخلوا فيه أفواجًا إلاَّ لما رأوا من عدل حكوماته وإنصافها، وما أن ظهر الظلم في بعض دوله، إلاَّ وبدأت تنحدر حتَّى طمع فيها الأعداء، وغزوا أوطانها واحتلّوها، وما أن تعود الأمَّة إلى العدل إلاَّ ويعلو أمرها، ويرى الناس فيها المثال، والنموذج للأمم المتحضِّرة العادلة، كم للإسلام من دولة استطاعت حكومتها أن تنشر العدل فيها، فعادت أمَّة قويَّة، ينعم أهلها بالرزق الوفير، فالعدل هو الذي يبني أمَّة الرخاء، لأنَّ الدولة العادلة تمحو آثار المظالم من أرضها، فيستقر لها الحكم، وتزرع المحبة بين أبناء شعبها، ويصبح الناس فيها أعوانًا على الخير، ويقفون صفًّا موحَّدًا ضد الظلم، فيسعدون بعيشهم في ظل عدل وافر، وفي ظل رفاه دائم، وفي ظل قوة تؤتى فتمنع عنها الأعداء، فآثار العدل في كل دولة تظهر في قوِّتها وتضامن شعبها، وبُعدها عن الشرِّ وأهله، واجتماع شعب وحكامه على الخير لا يكون إلاَّ في ظل هذا الدِّين الحنيف، الذي أمر بالعدل، وإيصال كلمة الحق لمن يستطيع إنفاذها، وبلادنا كانت -ولا تزال- من الدول التي أمضت للإسلام أحكامه في بلادها، وتواصى أهلها على الحق، وهم اليوم يتواصون بالحق في ظل ظروف متغيّرة؛ ليبنوا لوطنهم دولة العدل التي يريدون، يجتمعون على كلمة الحق جميعًا، شعبًا وحكامًا، نصرهم الله على عدوِّهم، وأمدَّهم بالخير في كل زمان.. إنَّه القادر على ذلك.