إنما أرسل الله رسله -صلوات الله وسلامه عليهم- وأنزل معهم الكتب ليعم هديه جميع خلقه، وليبلغونهم منهج الله في عبادته والتزام حكمه في كل مجالات حياتهم، ومقتضى ذلك أن يعلم الخلق بهذا المنهج تمام العلم، فكان أن أمرهم أن يندبوا من بينهم من يتلقى العلم به، ويبلغونهم إياه، فقال تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون)، فلا الجهاد يخرج إليه الناس كلهم، ولا طلب العلم بالدين يخرجون إليه كلهم، بل بعضهم وهم ينقلون ما تعلّموه إلى باقيهم، ولعل هذا أول حديث عن التخصص، الذي هو ضرورة للحياة البشرية، حيث يتنوع ما يقوم به الناس من أعمال ليعمر الكون وتستمر الحياة، ولكن العلم حق للجميع، ففي الحديث الصحيح: (العلم فريضة على كل مسلم)، فمنه علم هو فرض عين على الجميع، لأن حياتهم لا تستقيم إلا به، وهو علم العبادات، وكل ما لزم لحياة المسلم وليرضي ربه، ولكن من علم الدين ما لا يحتاجه -ضرورةً- كل الخلق، فكان فريضة كفاية إذا قام به البعض سقط عن الكافة طلبه، كعلم المواريث، وعلم الجهاد، وعلم العقوبات.
والحق في التخصص في علوم الدين متاح لكل مسلم يسعى لرضا الله وطاعته، فقد حث الشرع على ذلك، فربنا عز وجل يقول: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، ونبينا – صلى الله عليه وسلم – قال: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)، وتسابقت طوائف من المسلمين في تحصيل هذا العلم لاحقًا عن سابق من لدن صحابة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وتابعيهم، وحتى يومنا هذا، ونتج عن هذا حصر هذا العلم في علوم متداولة، برع المسلمون في إبداعها لتجمع ميراث النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما برعوا في نقل الأخبار بدقة غير معهودة في نقلها في عالم الناس قديمًا وحديثًًا، في علوم الحديث رواية ودراية، ووضعوا لها قواعد محكمة في مصطلح الحديث، وفي علم الجرح والتعديل، وتاريخ الرجال، حتى عرف فضلهم أمم الأرض كلها، واستطاع الفقهاء عبر قواعد أصولها للاستنباط للوصول إلى حكم كل واقعة جديدة.
واجتمع من كل هذا ميراث علمي ضخم للعلوم الدينية، لا يمكن لعاقل أن يفكر في محوه من عقول الصالحين من عباد الله المؤمنين، ذلك أنه لن يستطيع ذلك مهما أوتي من ذكاء، ومهما أعانه من أعداء هذا الميراث أكثرهم، فهذا هو المستحيل الذي لا يدركه إلا العقلاء.
وهذا الدين لن يشاده أحد إلا غلبه، ومن أراد هدمه فإنما يهدم نفسه أولاً، وقد حاول ذلك من المجانين خلف عن سلف، وبقوا في مزبلة التاريخ لا يذكرهم أحد إلا ليضرب بهم المثل لمن يسعى جاهدًا لهزيمة نفسه بنفسه، فلا خير لأحد في عداء الدين أبدًا، بل هو الشر المستطير الذي يمس صاحبه بعذاب شديد دنيا وآخرة.
فدعوى احتكار علم الدين كذب وافتراء، فلا أحد من علماء الدين يقول لكم لا تتعلموا علوم الدين، فهذا الميدان أمامكم حصّلوا منه ما تعدون به علماء، وسيصغي لكم كل عالم، وقد يبلغ فيه أحدكم مبلغ الاجتهاد، فيجد لنا حلًا للمعضلات من مسائل العلم، وقد طلب هذا العلم رجال وقد أسنوا فإذا بهم يشار إليهم بالبنان إذا ذُكر العلماء.
ولكن لا أحد يقول: إنك إذا لم تطلع إلا على قشور من بعض علوم الدين لا تؤهلك لشيء أبدًا سيسمح لك أن تفتي في مسائل علوم الدين بمجرد رأيك، وذهنك خالٍ عن أي معلومة، ولا يمكن أن يسمع لك وأنت تجهل كل هذا العلم المتراكم لم نعرف منه شيئًا، ثم تدعي أن لك الحق في أن تقول فيه ما تشاء، فأهل الاختصاص في كل علم ديني أو دنيوي سيمنعونك من الحديث عن العلم الذي تخصصوا فيه وأنت جاهل فيه.
وما نسمعه اليوم من الجهل التام بعلوم الدين يردده من لم يتخصصوا فيه، بل ويرون أن العلماء المتخصصين فيه على مر العصور لم يعلموه حق العلم، وأنهم وأنهم!، بل يبلغ ببعض هؤلاء الوقاحة أن ينتقصوا علماء دين لمجرد أنهم لا يوافقونهم على ما يقولون، وقد عانينا منهم الكثير من الجهل وسوء الخلق، ووجب أن نواجههم، فصون الدين عن جهلهم جهاد بحق في سبيل الله.
وليثق إخواننا أن علم الدين لا يمكن لأحد احتكاره أيًّا كان مكانه أو مكانته، ولكن لن يسمح للجاهل فيه أن يتحدث فيه بلا علم، وسيلاحق قضائيًّا حتى يكف عن تجديفه في الدين بجهل.
ولأننا إن لم نفعل هذا فإنَّا نفتح بابًا للفتنة لن يوصد أبدًا، ولا خيار لنا في ذلك أبدًا، فصون الدين واجب شرعي هو جزء من الجهاد الشرعي الذي كلفنا الله به، فاللهم إني قد بلّغت.