ما يبقى مني بعد الرحيل

المؤمن تشغله في هذه الدنيا صلة موثقة بربه لا تنقطع حتى يلقاه في يوم تنتهي به حياته على الأرض، وتبدأ له حياة أخرى وسطى بين الدنيا التي إن شغلته عن ربه خسرها أعني حياة البرزخ وخسر معها الحياة الأخرى، والسعيد من نال من العلم الشرعي ما يكشف له الطريق للخروج من الدنيا سالمًا، لم يتحمل من أوزارها إلا قليلًا يضيع في بحر من طاعات سلك بها الطريق إلى الله، وهو محظوظ إن وجد من العلماء الصالحين من أخذ بيده حين الطلب وعرّفه الطريق إلى الله، وكيف يسلكه حتى يتقرب إليه، فإذا هو من أهل الله، الذين ضرب لهم المثل بقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه (ما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)، وهو تصوير لما يصل إليه سالك الطريق إلى الله، مما لا يناله سواه، إلا من اقتدى بفعله وسار على النهج الذي أرشده إليه، ولله في أرضه أولياء أخفياء ساروا في الطريق إليه فقبلهم وأثابهم عظيم الثواب، فكانوا في مجتمعهم نجوما يهتدى بهم، بقي لهم في نفوس الناس المحبة الصادقة والإجلال، رغم أنهم خلوا من متعلقات الدنيا، التي تجعل الناس يتتبعون أصحابها ويطلبون القرب منهم، فإذا رحلوا عن دنيا الناس بقي لهم الصيت الحسن والذكرى الطيبة بين من عرفوهم، وحتى أولئك الذين لم يلتقوا بهم ولم يقرأوا لهم، وفقط قد سمعوا سيرتهم التي تتردد على الألسنة، ومن حسن حظي أن عرفت في صباي من أشياخي من أخذ بيدي، وعرفني كيف أسلك الطريق إلى الله، لأنه خبر الطريق وعرف المعوقات التي تمنع العبد من سلوكه فتخلص منها وأجهد النفس حتى سار في الطريق لا يعترض مسيره غرض ولا مرض، فحقق قربه من ربه واطمأن في دنياه واستعد لآخرته، وهو فرح بلقاء الله فأحب لقاء ربه فأحب ربه لقاءه، وما أجملها من حياة تنتهي برضا حتى وهو يغادر دنيا الأنام، لأنه يعلم أنه راحل إلى ملإ خير من ملئه وحياة خير من حياته في هذه الدنيا وسبقه إليها ما يرجو أن يكون زادًا له في الآخرة، وكان لنا بحمد الله أشياخ حمدنا لهم طرائقهم في إرشادنا إلى الطريق الأمثل للهداية، فعشنا في جوارهم نتلقى علمًا ونربى تربية ترقى بنا معهم لمن سلكوا إليه الطريق قبلنا، رحم الله من سبقنا إلى الحياة الأخرى شيخنا الجليل العلامة محمد متولي الشعراوي، والذي أفاض علينا قربنا منه الكثير من الرؤى النيرة دينًا ودنيا، حيث إن معرفته الدينية الركيزة الأهم لمعرفته الدنيوية، فهو لا يتصور دنيا بلا دين، ولا يتصور دينًا بلا دنيا فهي الخير الزماني والمكاني الذي يمارس فيه الدين، فهي دار العمل والآخرة دار الجزاء، وكان رحمه الله عالمًا باللغة العربية التي هي تخصصه الجامعي، له في كل فروعها علم عميق راسخ وهي بالنسبة لعلوم الدين الآلة لفهمها، وهو ابن المؤسسة العلمية لعلوم الإسلام كلها التي حفظت تراث هذه العلوم وطورتها مؤسسة الأزهر الشريف، الذي شرفه أنه احتضنها، وشيخي -رحمه الله وأجزل له المثوبة- أطلق عليه لقب «إمام الدعاة»، فاستحقه بجدارة، أنقذ الله به كثيرين ممن جرفتهم متع الدنيا في طريق بعيد عن الله فأثر فيهم بدعوته فنقلهم من طريق كاد أن يهلكهم إلى طريق يصلون به إلى الله، وكم رد الله به من ضال إلى الهداية، ومن متبع للباطل رده إلى اتباع الحق بدعوته إلى الله بحكمة وموعظة حسنة، وبرفق ولين، وبعيدًا جدًا عن غلو أو تشدد، قلت له يومًا ما يبقى منه بعد الموت، فأطرق ثم قال: أنت بنيّ مخير أن يبقى منك بعد الموت الشيء الكثير يعرفك به الناس ويلهمون الدعاء لك كلما مر ذكرك، إن سلكت كما علمتك الطريق إلى الله، ارضِ ربك يرضى عنك الناس، ليكن ربك سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي ترى به ويدك التي تبطش بها، استحضر ربك، وتذكر أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، حتى في اللحظة التي تنزع فيها الروح من الجسد، اسأل الله ما حييت أن تحب لقاء الله إذا حل الأجل ليحب الله لقاءك، فترحل عن دنيا الناس مطمئنًا.
هكذا ربانا أشياخنا وسأحدثكم عن نوع آخر منهم في مقال مقبل بإذن الله، وأملي أن يكون كل سطر خطته يميني فيه نفع لإخواني، فهذا ما أرجو، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

العالم الأول الذي افترى على الأمم!!

عشنا زمناً ونحن نتحدث عن السياسة والمتقدمين في ممارستها، حتى نعتنا دولاً بأنها العالم الأول، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: