لم أسمع الشيخ الحصين يتحدث عن نفسه, زهده ظاهر عليه في مظهره وأقواله وسلوكه , لم يكن ممن يهتم لرياش الدنيا وزخرفها, حتى في مسكنه المتواضع, يكفيه منها الضروري
لا أحد يشكك في أن الفاضل النبيل, الذي لا ترى في سيرته إلا الصدق وعمل الخير, والذي يعترف به كل لسان, ويراه كل إنسان بعين البصيرة هو من أهل الله الذين سلكوا الطريق اليه حتى أنسوا به فأحبهم وأحبوه, فمثل هذا قدوة للناس ينير الطريق لهم إلى ربهم, لا بالقول وحده بل والفعل أيضًا والعالم الجليل الذي فقدته البلاد قبل أيام أعني: معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين هو من هؤلاء الذين تعلقت قلوبهم بالله, أحبوا من يحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويبغضون ممن لا يحبهما, الأقوال والأفعال عرفته على البعد مما تناقله الناس عن خلقه وسلوكه, وعندما عرفته عن قرب اكتشفت أن كل ما كانوا يقولونه عنه من ثناء لا يفي بحقه, فهو العالم الفذ فيما تخصص فيه من علوم الدين, وما دعمه بثقافة واسعة متنوعة, يقرأ بلغتين سوى لغته الأم العربية التي يحسن استعمالها, ويتحدث بها إلى سامعيه ببلاغة تبهرهم, وإذا ارتجل كان ارتجاله مؤثرًا, حينما لقيته أول مرة كسر ما كان في ذهني مختزنًا عن بعض العلماء الذين عرفتهم قد تولوا مناصب أدنى مما تولى, فقد رأيت رجلًا بسيطًا في ملبسه, حييٌ كثير الصمت, لا تسمعه يتكلم الا حين يسأل أو يحاضر, أو يرى شيئًا يرى أنه يضر بدينه, ورأيته خير صاحب في السفر, فحينما صحبته إلى بريدة لتعقد فيها دورة للحوار الوطني, رأيته الرجل الذي يعين صحبه رغم أنه أكبرهم سنًا, يتفقدهم ويبحث عن كل منهم يطمئن عليه, ويخجل حين الثناء عليه, ويتخفف في السفر فلا يحمل حقيبة تثقله, حتى رأيناه يحمل كيسًا من ورق, اكتشفنا أنه يحمل فيه غيارًا واحدًا, رغم أن كل واحد منا حمل حقيبة كبيرة وضع فيها ما قد يستعمله في سفره وما قد لا يستعمله, وكان في ترؤسه للحوار في منتهى الحكمة, حتى رأى كل المتحاورين أنه قريب منهم, يصغي السمع لما يقولون, ويتيح لهم الفرصة كاملة أن يطرحوا آراءهم وإن لم يوافقهم عليها, لم أسمعه قط يتحدث عن نفسه, زهده ظاهر عليه, في مظهره وأقواله وسلوكه, فلم يكن ممن يهتم لرياش الدنيا وزخرفها, حتى في مسكنه المتواضع, يكفيه منها الضروري لحياة مستقرة, سيرته التعليمية تدل على أنه أنهى دراسته الابتدائية في بلدته, ثم أتم دراسته الإعدادية والثانوية بدار التوحيد بالطائف ثم التحق بكلية الشريعة بمكة ليتخرج فيها, ثم ينتقل إلى القاهرة ليحصل على ماجستير في الدراسات القانونية, ثم عمل مدرسًا في الابتدائية أولًا ثم في المعهد العلمي السعودي, ثم عين مستشارًا قانونيًا في وزارة المالية والاقتصاد, ثم انتقل إلى مجلس الوزراء وعين وزير دولة حيث اشترك في وضع بعض أنظمة البلاد, وحتى أصبح رئيسًا لهيئة الخبراء بمجلس الوزراء إلا أنه لم يلبث حتى استقال ليتفرغ لشؤونه الخاصة وليجاور بالمدينة, التي أحبها وأنس فيها بالمسجد النبوي الشريف, وقضى بها زمنًا حتى عين رئيسًا عامًا لشؤون الحرمين الشريفين, اللذين تعلق بهما قلبه, وكان بمرتبة وزير لكنه لم يرتح قط لهذه الألقاب, ولا يحب استعمالها, ويرى أنها تحمل إليه اختلاف تعامل الناس معه حتى القريب منه, وهو لا يريد أن يكون إلا هو, لذا يرفض حتى أن يساعده موظف في خلع عباءته, ويقول إنه يقوم بخدمة نفسه وهو هو صالح الحصين لا ينقص منه أن يقوم بشؤون بنفسه, وقد سعى إلى العلم العمر كله سمعه من علماء أفاضل في حلقات الدرس بمكة وغيرها مع دراسته النظامية وهو من خريجي دار التوحيد هذا الصرح التعليمي الذي أنشأه الملك عبدالعزيز ليمد الدولة بقضاتها وموظفيها, ودرَّس فيها علماء أفذاذ من سائر علماء المسلمين من خارج المملكة خاصة من الأزهر الشريف, فأثّروا في تلاميذهم وأثروا عقولهم بوسطية الدين وتسامحه, وشيخنا الفاضل تميز بذلك, ولا أظنه مع زهده قد جمع مالًا, فماله كله ينفقه في سبيل الله, إلا ما يقوم بشأنه وشأن أسرته, ولما عين رئيسًا عامًا لشؤون الحرمين بمرتبة وزير, كان هو العالم الجليل الذي عرفناه من قبل, فتجلى حبه للحرمين على محياه ورأيناه واضحًا في تصرفاته, فأحبه العاملون معه في الإدارة, وأحبه الناس في مكة والمدينة.
رأيته -رحمه الله- لا ينظر إلى إخوانه إلا بعين المحبة, يحاول إقناعك برأيه وقد يغلبك بحسن خلقه فتميل إلى رأيه, وإن لم يستطع أن يقنعك برأيه لم يكن هذا ما يجعله ينفر منك, فقلبه الذي لا يحمل إلا الحب يتسع للجميع من وافقوا رأيه, ومن لم يوافقوه, وهو الشيخ الذي استطاع أن يفهم عصره ومن يعيشون فيه, وكل ذلك عبر ما علمه في دينه والتزم به, وما ارتضى من ثقافة الأمم من حولنا بعد اطلاعه عليها وما رآه بعلمه لا يعارض دينه, لهذا أحبه أبناء وطنه كلهم فسمعنا الثناء عليه من الجميع, والناس شهود الله في أرضه, وظهرت هذه المحبة واضحة يوم وفاته, رغم أن شيخنا -رحمه الله- كباقي البشر له نجاحاته وإخفاقاته, ما أصاب فيه وما أخطأ إلا بحر حسناته يخفي كل ذلك, فهنيئًا له هذه المحبة ونرجو له أن يكون ممن أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه, وأن يثيبه على كل ما فعل رضا لربه وأن يغفر له ذنوبه ويسكنه الجنان, فذاك ما نرجو والله ولي التوفيق.