ساذجو العقول هم من ظنوا إجماع الخلق ممكناً، وأخذوا يكرهون الناس على مجرد آراء لهم لا انتساب لها لأدلة عقلية أو شرعية، فأنكروا الاختلاف وحملوا خلق الله ما لا يحتمل ونسبوهم إلى ابتداع أو فسق أو حتى مخالفة للدين
كلما ثار جدل حول اختلاف فقهي خاصة أو ديني بصفة عامة في هذا الوطن، إلا ووجدت أصوات إقصائية عنيفة أشد العنف لفظياً حتى تصل إلى التهديد الصريح بالإيذاء والتحريض، في مجتمع تأكدنا فيه بأن التحريض فيه ينتج عنفاً، وكثير من قضايا الجدل في وطننا هي قضايا قديمة تتجدد على مر الزمان، رغم أننا جميعاً أدركنا أنها لا يمكن حلها عن طريق عنف لفظي أو فعلي.
فالخلاف العقدي بين طوائف الأمة وفرقها ندرك أن إزالته تماماً أمر مستحيل فقد عاش هذا الخلاف أمداً بعمر الأمة لم يستطع أحد أن يتغلب عليه أو يزيله من رؤوس عمرت به على مر الزمان، ورغم ما أدى إليه من كوارث، وما حاول العقلاء على مر السنين أن يطفئوا نيرانه إلا وفشلوا، فلما أعياهم العلاج الناجع أن يحدوه نادوا بالتعايش مع احتفاظ كل بمعتقداته، وكأنهم يقتربون من حل وصل إليه الغربيون في نهضتهم الأخيرة حينما اعترفوا بأن الدين لله والوطن للجميع ووصلوا إلى صيغة للتعايش تمنع عنهم شر ما يثيره اختلاف العقائد والأديان من حروب، ذلك أن الواقع لا يمكن تغييره إلا بدماء تسيل وحروب مدمرة لا تبقي ولا تذر.
واستطاعت شعوب مثلنا كتب عليها أن تتنوع جماعاتها عقدياً أن تتعايش رغم الاختلاف وعاشت في أوطانها دون أن تشتبك لفظياً باللسان أو فعلياً بالأيدي، فما بالك بالسلاح، ولم يزل نعيمها إلا عندما ظهر فيها المنظرون المقصون، الذين دوماً يمزجون إقصاءهم ببذاءات ألسنة لا تحتمل، فتثور حينئذ البغضاء والكراهية فتؤدي إلى أن يخسر المجتمع أمنه واستقراره، حينما تتقاتل جماعاته.
وإذا كانت العقائد يحتد المختلفون عليها، فمسائل الفقه عند المسلمين لا تحتمل هذه الحدة، لأن الاختلاف فيها يمهد لسعة مرغوبة عند سائر المكلفين ولكن النفوس إذا مرضت تطور هذا الاختلاف إلى كراهية تقود إلى عداء فعندما ساغ الاختلاف في بعض مسائل العلم ونتج عن ذلك تعدد الاجتهادات التي نتجت عنها مدارس فقهية تعلم روادها الأول أن يحصروا اختلافاتهم في مجالسهم العلمية، ووضعوا للاختلاف ضوابط وآداباً تمنع أن يتحول إلى مقارعة بالسباب واللعن وفاحش القول وبذاءة اللسان، وقرأنا في موروثهم احترامهم لبعضهم، حتى ينعت صاحب المذهب، أهل المذهب الآخر المختلف معهم بسادتنا، فها هم السادة الأحناف يختلفون مع السادة الشافعية، ورأيتنا في أم القرى نتبع نفس النهج زمناً طويلاً حتى اعتادته ألسنتنا، ومضى زماننا وفي ديارنا قوم يختلفون عنا في المذهب والطائفة، ولا يثور بيننا عداء أو كراهية مسببة له.
ثم جد علينا أسلوب آخر يتتبع كل مختلف عنه بذم عريض حتى يخرجه من الملة أو يكاد، ويقصيه إقصاء شديداً حتى يطالب ألا يسمع له صوت، هو في أول درجاته مبتدع وفي نهايتها كافر مشرك، رغم أن الاختلاف فقهي فرعي، أو اختلاف في فهم نص ولو كان في أمرعقدي، اختلف عليه علماء الأمة منذ عهد التابعين وحتى يوم الناس هذا.
وهو الأمر الذي أسس لثقافة إقصاء في الاختلاف العلمي الديني في بلادنا وأوجد الرغبة الشديدة في جعل الناس أمة واحدة لا يختلفون وكأنهم صُبُوا في قالب واحد، كل منهم طبق الآخر، فهماً وإدراكاً وتفكيراً وهو الأمر الذي يستحيل عقلاً وشرعاً.
فالأفهام والمدارك ومن ورائها العقول لا يمكنها أن تتساوى، فقد خُلق الناس مختلفين وسيبقون كذلك، المهم ألا تتطور خلافاتهم إلى بغضاء وكراهية تؤدي إلى عداء مستحكم حتماً يؤدي إلى مواجهات لا تبقي ولا تذر لعقل أن يعمل، ولا لقلوب أن تجتمع على هدي جعله الله نوراً للناس يدرأون به نتائج اختلافهم.
فحل المسلمون منذ الصدر الأول اختلافاتهم بالرجوع لمصادر لا يختلفون عليها ثم يعطون مساحة للعقل كبيرة في الاستنباط ولما تتفق عليه العقول مما أسموه دليل العقل، وهو ما يصل به الخلق إلى البديهات العلمية، وحصروا الاختلاف فيما جعلوا له مسوغات شرعية بورود النصوص بطريق قطعي لا يختلفون عليه، وبطريق آخر ظني قد يختلفون عليه بضوابط وقيود أنفقوا عليها، ثم انتقلوا إلى ما هو ظني فألزموا بنتائجه عملاً، وإن لم يروا أنه مفيد للعلم، وفي الفقه جعلوا قواعد للاستنباط يرجعون إليها، في علم أصلوه لذلك فيما سمي بأصول الفقه، فقبلوا اختلافاً أساغوه عقلاً ورسموا له أصولاً شرعاً، فتعددت مذاهبهم، ولم يكره بعضهم بعضاً، فانتفى حينئذ أن يؤدي الاختلاف لأكثر من هذا.
ولكن ساذجي العقول ممن لم يعرفوا للعلم أصولاً، هم من ظنوا إجماع الخلق ممكناً، ولو لم يكن لهم ضوابط عقلية وشرعية يرجعون إليها، وأخذوا يكرهون الناس على مجرد آراء لهم لا انتساب لها لأدلة عقلية أو شرعية، فأنكروا الاختلاف السائغ شرعاً، وحملوا خلق الله المسلمين ما لا يحتمل ونسبوهم إلى ابتداع أو فسق أو حتى مخالفة للدين، ورأيتهم يذمون الناس ويسبونهم دون وجه حق، فهلا فهموا القضية أولاً؟، نسأل الله لنا ولهم الهداية.