لقد انقطعت مشاركتنا في صنع الحضارة منذ زمن بعيد وأصبحنا نتخير من ماضينا أسوأه لنعيش فيه لا نبرحه
نحن الذين تخصصوا في العلوم الدينية وتخرجوا في كلياتها, ثم مارسوا بعد ذلك هذا التخصص, إما في التعليم كما فعلت أنا مع البحث والكتابة, أو في القضاء الشرعي, أو الدعوة إلى الإسلام, والغريب وأنها دعوة مسلمين إلى دينهم, وطبعاً تعددت الوظائف والمهام في بلادنا, فنحن تتعدد عندنا الجهات الدينية, فالقضاء إدارياً أو عاماً أو متخصصاً مع الوزارة المسؤولة عنه مجال يعمل فيه هؤلاء المتخصصون, كما أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية, بكل ما فيها من تفريعات العاملون فيها بعض هؤلاء المتخصصين, وكذا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهو جهاز كاد أن يساوي وزارة والأصل ألا يعمل فيه إلا بعض من هؤلاء المتخصصين, ومع هذا كله فما تخرجه الكليات والمعاهد فاض عن حاجة كل هذه الأجهزة, وأصبح كثير منهم الآن عاطلين عن العمل, ولم يجدوا عملاً سوى أن ينطلقوا فيما أسميناه الدعوة, ويتدخلوا في عمل الإدارة المتخصصة في الإفتاء وبعضهم أصبحوا محتسبين متطوعين, ونشأ عن كثير من تدخلاتهم المشاكل.
أقول نحن الذين تخصصوا في هذه العلوم ظللنا نسمع ونقرأ عن الغرب ما جعله سوقاً للفساد, ودار حرب لا هم لها إلا اجتثاث إسلامنا من صدورنا, ولعل كثيراً منا امتلأ صدره غيظاً على الغرب ومن يحيا فيه, ولكنا لما مارسنا العمل وعرفنا الدنيا على حقيقتها عرفنا أن بعض ما حشيت به رؤوسنا ليس له حقيقة ولما أتيح لبعضنا أن يزور هذا الغرب, عرف الحقيقة فميز بين ما فيه شر من هذا وما فيه خير, عرف ما يجب على المسلمين أن يجلبوه من الغرب مادة ومعنى, فكراً وصناعة, وما يجب أن يحذر, ومن عرف الغرب وزار دياره لم يعد من هؤلاء لا ذاك التلميذ الذي تربى على أن الغرب عدو في كل حال, فكثير منا اليوم إذا زار دولة أوروبية, ورأى ما تتمتع به مدنها من تنظيم وما ترقى به من نظم, وما يتوفر لها من إمكانات, وشوارعها النظيفة وسعتها وما على جانبيها من مزروعات تضفي عليها جمالاً, وما يصل إلى انوف السائرين فيه من روائح الزهور والورود, ورأى تعامل الناس أثناء سيرهم سواء ركبوا السيارات أو وسائل النقل الأخرى, أو مشوا فيها على أقدامهم, فرأى أرقى تعامل بشري, كلهم لا يخالف قانوناً أو نظاماً إلا النادر الذي لا يكسر القاعدة, وإذا قارن مدننا بمدنهم رأى ما يخالف ما وصفنا تماماً, فليس في مدننا تنظيم, وليس فيها نظم تحترم, لا إمكانات فيها حتى أن أكثرها لم تؤسس على بنية أساسية ترقى بصحة أهلها, لا ترى سوى الأتربة تحيط بشوارعنا وسياراتنا تهدد في شوارعنا وسائقيها لا يحترمون تعليمات وليس بينهم وبين النظام معرفة, جل الناس يخالفون النظم والقوانين, أما من يمشي على قدميه فحظه تعيس, لما سيعلق بجسده وملابسه أثناء سيره ولا يرى أثناءه سوى أرتال من القمائم على جانبي الشارع إلا القليل النادر من الشوارع, فإن تسوقت في مدنهم لم تخش غشاً, ولا وجدت من يبيعك السلعة بثمن وجاره يبيعها لك بثمن آخر, ترى الناس مسرعين إلى غاياتهم لا ينشغلون بغيرهم وتراهم عندنا ينشغلون ببعضهم عن غاياتهم, وكلما زرت مدينة أوروبية رأيت أننا نتخلف عنهم في كل الميادين, ولا أدري لماذا لا نستطيع أن نفعل فعلهم في مدنهم وقراهم في مزارعهم ومصانعهم, ألسنا مثلهم بشراً نستطيع أن نفرق ما بين ما ينفع وما يضر, ألهم عقول أذكى من عقولنا وأزكى, أم أننا لا نستخدم عقولنا أصلاً, لا بد لنا وأن نبحث هذا الأمر بجدية تامة, وأن نتلمس الأسباب التي جعلتهم يتقدمون وجعلتنا نتخلف, أياً كانت هذه الأسباب لنحاول تجاوزها فلن نستطيع أن نكون في نفس الصف معهم إلا إذا استطعنا أن ننافسهم في هذا التقدم في جميع المجالات, وأن نبني معهم حضارة إنسانية راقية, وحتى لو اعتبرناهم لنا أعداء فلن ننتصر عليهم إلا إذا كنا أكثر منهم تقدماً, والحضارة الإنسانية يتشارك البشر فيها كلهم, وتبقى لهم أديانهم, بل ويحافظون على ثقافاتهم, فلا أحد يقول اليوم: أن اليابان لم تشارك في صنع الحضارة المعاصرة, مع أنهم أشد شعوب الشرق تمسكاً بدينهم وثقافتهم والصين اليوم تشارك في صنع هذه الحضارة مع أنها تتمسك بثقافتها وأديانها, أما نحن فقد انقطعت مشاركتنا في صنع الحضارة منذ زمن بعيد, وتلاشى الابداع عند أفرادنا, وأصبحنا نتخير من ماضينا اسوأه لنعيش فيه لا نبرحه, وأصبح بعض دعاتنا يبثون أفكاراً تمنعنا أن نشارك في بناء حضارة راقية للإنسانية, ويدعون الناس إلى انعزالية تكاد أن تكون تامة عن العالم أجمع, وهو الأمر الذي لا يكون إلا في زمان غير زماننا هذا, أما في هذا الزمان فهو المستحيل, ولكن من ينظرون لهذا الانعزال لا يعقلون, إننا إذا شاركنا في حضارة هذا العصر ونافسنا الأمم في تقدم هي التي صنعته, حتما لن نفقد ديننا, بل بمشاركتنا فيه نحميه ونصونه, أما إذا أمعنا في التخلف فإننا لا شك سنفرط فيه, لأننا سنصبح أضعف أمم هذا العصر, ففي حياة الغرب جوانب كثيرة إيجابية لو أخذناها عن الغرب لتقدمنا, وفيه جوانب أخرى لا يرضاها أحد منا ونحن ندين بهذا الدين, ولهم دين ولنا دين, نتجنبها ولا تمنعنا من التواصل الحضاري معه وأخذ المفيد منه لتطوير أوضاعنا لنتقدم مثلما تقدم فهل نفعل هو ما أرجوه والله ولي التوفيق.