السلفية والموقف من المذاهب الفقهية

السلفية والموقف من المذاهب الفقهية

إجابة على أسئلة صحفية

كتبها/ الشريف عبدالله فراج الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم

توطئة:

الحمد لله الذي يمن على من يشاء من عباده بالهدى, فينير به عقله فيعلم فيرى الحق ويتبعه, ويعرف الباطل ويجتنبه, وأصلي وأسلم على سيدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أخرج العباد من ضيق الدنيا إلى سعتها عبر إيمان ويقين, ومن الظلمات تتكاتف إلى النور ينتشر ويعم الآفاق.

الشريف عبدالله فراج

وبعد: أرسل إليّ الأستاذ محمد بن عيسى الكنعان المحرر والكاتب الصحفي رسالة يخبرني فيها عن عزم جريدته ((الجزيرة)) عن استحداث صفحة حوارية, وأنه اختارني مع آخر لتفتح بنا بموضوع عنوانه (السلفية والموقف من المذاهب), ثم أرسل إليّ بعد موافقتي على ذلك عشرة أسئلة أجبت عليها, ثم أرسلتها إليه, وانتظرت أن تظهر الصفحة الحوارية,فلم تظهر حتى هذه اللحظة التي أخط فيها هذه التوطئة.

ونحن بحمد الله قوم ننفرد بتريث طويل الأمد يفوت علينا كل إصلاح, حتى ولو كان بتعويد مواطنينا على التحاور, ودون أن ننتظر من هذا الحوار شيئًا يغير من الركود الذي ينتاب كل شيء في مجتمعنا, على نمط حوارنا الوطني, الذي مضى عليه العديد من السنوات ولم يبلغ رشدًا.

ولست أدري ما الذي حال دون نشر هذه الورقات التي حملت أجوبتي على الأسئلة, ولست أريد أن أتنبأ بشيء مما يتوقع هذه الأيام في وطننا, من هذا الذي جعل حرية التعبير تتراجع في أقدس ميادينها ((الإعلام)) في شتى وسائلة خاصة الصحف.

وأيًا كانت الأسباب لعدم النشر لست مهيئًا لقبولها, فأنا من المؤمنين بأن حرية التعبير مكفولة لكل إنسان حر عبر العالم, وفي بلادنا ينص نظام الحكم على أنها مكفولة لأفرادنا, لنعبر عن آرائنا, ما دمنا لا نحمل سلاحًا من أجل فرضها على الآخرين, فإذا أبنا عنها فمن اقتنع بها بحرية اختيار وافقنا, ومن يرى فيها خطأ صحح لنا الخطأ مع التزام لأدب الحوار وأصوله, وأما أن يقصي لأحد رأي فهو المستحيل في عالمنا اليوم فوسائل إبلاغه للناس تعددت ولم يعد التحكم فيها ممكنًا.

وأما إقصاء رأي ومحاباة آخر, حتى لا يبقى في الساحة غيره فزمن هذا ولى, وهو أصل من أصول هدم الفكر الحر وتطور الأفكار والذي لا يجيده إلا المستبدون, وهم في عالمنا اليوم يرحلون, فإن لم يرحلوا, رحلوا لا محالة.

وها أنا أطرح أفكاري عن السلفية في الورقات المعدودة, وانشرها حتى لا تحجب عن من يريد الاطلاع عليها.

عبدالله فراج الشريف

جده في30/4/ 1432

سعادة الأستاذ/ عبدالله فراج الشريف حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكر لكم جميل تعاملكم وكريم فضلكم بالموافقة على المشاركة في الصفحة الحوارية بالجزيرة حول (السلفية والموقف من المذاهب).

وعليه أرفق لكم الأسئلة حول الموضوع, كما تجدونها أدني هذه الرسالة .. مع مراعاة أن لكم الخيار في الآتي:

الإجابة عليها وإعادتها في خلال (3) أسابيع من تاريخه.
الحوار الهاتفي المباشر في الوقت الذي تفضلون.

وتقبلوا فائق احترامي وتقديري

محمد بن عيسى الكنعان

كاتب في صحيفة (الجزيرة)

المحور الرئيسي:

ما هي السلفية .. وما موقفها من المذاهب والفرق الإسلامية؟

الأسئلة:

1. ما (السلفية) بشكل محدد .. هل هي منهج فكري يمكن أن يمارسه أي مذهب, أم هي رؤية فقهية خاصة بمذهب سني معين, أم هي دعوة إصلاحية مجددة؟

2. متى بدأ ظهور مصطلح (السلفية).. ومن أي مصدر اشتق هذا اللفظ وعن أي مذهب أو فرقة يعبّر؟

3. ما أهم الأصول التي تقوم عليها السلفية بخلاف المذاهب والفرق الإسلامية الأخرى, وبتحقيقها يصبح المسلم سلفيًا؟

4. كيف تنظر السلفية إلى المذاهب السنية الأربعة من حيث إجازتها لإتباع أي مذهب, خاصةً مذهب أبي حنيفة الذي يعتبر مؤسس مدرسة الرأي؟

5. هل للسلفية موقف عقائدي خاص تجاه المذاهب غير السنية والتيارات الفكرية, وما القواسم المشتركة التي يمكن أن تحقق التعايش بين السلفية وتلك المذاهب داخل الوطن الواحد؟

6. لماذا ترفض السلفية علم الكلام أو المنهج العقلي أو الفكر الفلسفي؟

7. ما رأيكم باتهام السلفية بالجمود والتشدد ورفض التقدم الحضاري بسبب تمحورها حول الماضي وإعادة إنتاج تراثه دون التجديد فيه؟

8. هل تتساهل السلفية في قضايا التبديع والتفسيق والتكفير, ما نتج عنه ظهور سلفيات متعددة كالسلفية الجهادية أو السلفية المقاتلة وغيرها في بعض الأقطار العربية؟

9. ألا تعتبر السلفية عامل تفكيك للأمة بحكم خصوصية منهجها وعدم قبولها للمذاهب الأخرى؟

10. هناك أطروحات إعلامية عربية وغربية تربط السلفية بالإرهاب, ما مدى صحة ذلك ولماذا؟

معنى السلفية

لا أستطيع تحديد معنى للسلفية, فهذا اللفظ لم أعرفه مستخدمًا في العلوم الدينية من قبل, وأرى أن المتأخرين اصطنعوه ليزيدوا به انقسامات المسلمين حدة, ولعله لم يظهر ويتردد على الأقلام والألسنة سوى ما قبل قرن أو يزيد قليلا , وهو حتمًا لا يراد به أن يصف منهجًا فكريًا محدد المعالم, فمن يدعونه مختلفوا المناهج والمشارب, وليس هو رؤية فقهية خاصة بمذهب سني معين, أو حتى دعوى إصلاحية محددة, والسلف بالمعنى اللغوي, والذي تكرر وروده في القرآن الكريم كقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِين * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِين}[الزُّخرُف:55-56]  وقوله تعالى عند تحريم الربا: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } [البقرة:275] وقوله عز وجل: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفْ}[النساء:22]

وقد ورد لفظ السلف في القرآن في مواطن ثمانية كلها بمعنى ما مضى من إنسان أو فعل أو تصرف, ولم ترد بمعنى أنهم فئة من المسلمين مثنى عليها متخير منهجها, والذين أرادوا بالسلف من مضى من أهل القرون الثلاثة اضطروا إلى تقيدهم بالسلف الصالح, ذلك أن كل الفرق والطوائف والمذاهب التي نعرفها كالسنة والشيعة والمعتزلة والخوارج, والقدرية والمرجئة وما شابه ذلك جذورها تعود إلى تلك القرون, ولذا اقتصر بعضهم على من يقصدونهم بالسلف بأنهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام رضوان الله عليهم, وادعوا لهم منهجًا لا يخرج عن منهجهم ورؤية هي رؤيتهم, وفهمًا ادعوه لهم حتى في مالم يتكلموا فيه اصلا, ومع أن كل المسلمين يدعى هذا, وحتى من يدعون أنّ جيل الصحابة قدوتهم يعلمون أن الصحابة قد اختلفوا, وأن اختلافهم لم يقسمهم ولم يقسم أحد بعدهم, ومن قلدهم هو آخذ ببعض أقوالهم وتارك بعضها حتمًا وهم كما ادعى سلفه, والقول بأن مدعي السلفية يفهم الكتاب والسنة بفهم الصحابة غير صحيح, فكثير من هذا الفهم أخذه عن غيرهم عبر العصور, واستجد منه فهم لم يكن موجودا من قبل, والله عز وجل لم يكلفنا أن نأخذ بفهم أحد لا ممن سلف ولا ممن لحق, وهو في الاجتهاد تقليد غير مرغوب, ولعله عند الجمهور للقادر على الاجتهاد محرم.

ظهور المصطلح أول مرة

لا يمكن تحديد زمن دقيق لظهور هذا المصطلح (السلفية) إلا أن المجزوم به أنه مصطلح حديث وهو حديث جدا فهذا مصدر صناعي مشتق من لفظ “سلف” الذي لا معنى له في اللغة إلا ما ذكرنا, أما في لغة أهل العلم الديني فلا مدلول له محدد, ولا يعبر عن أي فرقة أو طائفة أو مذهب, والمدعون لأتباع السلف بالمعني الذي أشرنا إليه أنفًا لا حصر لهم, فهم متعددون, وإن ترددت على ألسنة البعض أنهم أهل الأثر (الحديث), والذين بعضهم ادعى أنهم الفرقة الناجية والمنصورةتأولا لحديث الافتراق المشهور, والذي نصه [افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة, وافترقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة, كلها في النار إلا واحدة, وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة] وفي بعض رواياته أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سئل: من هي يا رسول الله فقال: [ما أنا عليه وأصحابي], وفي رواية هي الجماعة, وهو حديث لم يرد في الصحيحين, والاختلاف على صحة سنده ومتنه واردة قديمًا وحديثًا. ثم حديث (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله, لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس), وحصر بعضهم أهل السنة في جماعتهم, وهو تحجير واسع لا داعي له, إلا الرغبة في حصر الحق في فئة واحدة منهم([1]).

هل للسلفية أصول ومنهج

إذا قلنا ألا منهج محدد معلوم للسلفية يعلمه الجميع, وأنّ هذا المصطلح لم يعرفه السلف المدعى الانتماء إليهم, فكيف يصح لنا أن نقول أنّ لهم أصول تخالف المذاهب والفرق الأخرى أو توافقها, لهذا فنحن ندرك بيقين أن مدعي السلفية في عصرنا, والذين ادعوا إتباع السلف في العصور الأخرى التي سبقت لا يجتمعون على منهج واحد, ولا على رؤية واحدة, والكل مدعٍ الأخذ من الكتاب والسنة هم ومن يخالفونهم, والمسلم لا يصح له دين إن لم يؤخذه عنهما, ولكن الاختلاف يكون في فهم نصوصهما, خاصة في مسائل الاجتهاد, التي تختلف الأنظار لاستنباطها من النصوص, ولا تصح الدعوى أن اجتهاد معين فردٍ أو جماعة هو الأصح الذي يجب أن يتبع و يهمل غيره ومالم يُتَّبع نفس المنهج الأصولي المتفق عليه بين الجميع فلا يصح أن يقال أن هذا الاجتهاد خير من الاجتهاد الآخر, فعند فقد المعيار لا يصح التفاضل, وقد اختلف السلف, ولم يدع أحد منهم أنه وحده المصيب, أو هو الذي على السنة دون سواه, أو أنه المتبع وحده لسلف الأمة من الصحابة وأوائل التابعين, الذي دونت العلوم الدينية على أيديهم.

وكل ما يقال أن منهج هذا التيار أو ذاك يمثل ما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وأن ما سواه قد ضل الطريق عنه, هي دعوى مجردة لا يدعمها دليل, ولا تقوم عليها حجة, ولا نجد لها في الواقع صدى.

نظرة السلفية إلى المذاهب الفقهية

إتباع السلف بالمعنى الذي ذكرناه أي الانتماء لما كان عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – لو تحقق لأحد تامًا غير منقوص, وأمكن حصر ما كانوا عليه, لما كان لأحد ممن اتبعوهم أن يحكم بعدم جواز إتباع أي مذهب من المذاهب الأربعة السنية, فكلها مما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحبه مقتبس, فمدعي مثل هذا يسقط هذا التراث العظيم لعلماء هذا الدين الافذاذ وهو مالم يجرأ عليه أحد من قبل, ولم نرَ موقفًا كهذا لمن يدعي هؤلاء الذين يقولون بعدم جواز إتباع المذاهب الأربعة أتباعهم من العلماء مثل الشيخ أحمد بن تيمية أو ابن القيم أو الإمام محمد بن عبدالوهاب, رحمهم الله جميعًا, فكلهم متمذهبون ينتسبون إلى أحد هذه المذاهب الأربعة, ولا يرون في الانتساب إليه بأسًا([2]), وحتمًا العاجز عن الاجتهاد لا مندوحة له إلا أن يقلد القادر على الاجتهاد, وهذا هو ما تحقق في واقع الأمة على مرِّ العصور , بل أن المجتهد إذا عرض له ما يصرفه عن الاجتهاد أو ضاق وقته عنه قلد غيره من المجتهدين.

وأبو حنيفة النعمان أول الأئمة الأربعة ظهورًا, وأكثرهم استعمالًا للنظر في النصوص, ومدرسته وإن سميت مدرسة الرأي, فإنما عنى من سموها بذلك ما ظنوه منه توسعًا بالأخذ بالقياس, وهو الدليل الرابع من أدلة الأحكام الشرعية باتفاق, ولا شك أن الإمام مالك أيضًا ممن انتمى إلى هذه المدرسة فشيخه ربيعة الرأي أيضًا, ويشهد لذلك أصول مذهب المشتملة على سد الذرائع والمصالح المرسلة, وإنما نشأة القول بأن هذه المدرسة تقدم الرأي على الحديث مرجعة تعصب من غلاة الآخذين بظواهر النصوص لا واقع له في فقه الإمام أبي حنيفة, وقد رد على هذا القول العلماء على مرِّ الأعصار ورفضوه, فلا يصح بأي صورة من الصور أن نعتقد أن أحدًا من الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة يقدم فهمه للدين على قول صحيح النسبة إلى سيدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فما ردَّ أحد منهم حديث صحيح بلغه على هذا الأساس, وأما ألا يبلغه الحديث أو لم يصح عنده, أو وجددليلا آخر أقوى منه يرده فذاك أمر آخر لا يختلف عليه أحد.

ومثل هذا القول طال آخرين من أئمة المسلمين المعتبرين كالإمام الأشعري فقيل أنه يقدم العقل على الوحي, بل ادعوا أنه يتلقى العقل لا الشرع, وهذه أقوال مرسلة لن تجد ما يسندها من أقوال أولئك الأئمة أو اجتهاداتهم – يرحمهم الله.

السلفية والعقائد

إذا كنا نقول: ألا سلفية بمعنى المذهب المستقل عن المذاهب الأربعة, وأن المصطلح مستحدث, فإنا لا نرى لها أتباعًا حقيقيين لهم مواقف من مذاهبنا السنية الأربعة, يرفض به بعضها ويقبل بعضها, أو يرفضها كلها, وأما أن هناك فئة تدعي أنها السلفية حصرًا, وتدعي أن التمذهب بدعة ويحرم, وتحمل على جل علماء الأمة باعتبارهم مبتدعة أو مخالفين للسنة, فإن الواقع ينبئ عن وجودها, وآثارها ظاهرة في دروس في المساجد تلقى وخطب في المساجد تسمع, وكتب ورسائل تنشر, ظهرت لهم أول مرة حركة في القرن الثالث ثم ضعف دورها حتى توارت ثم ظهرت مرة أخرى في القرن السادس والسابع الهجري, ولها رموز في ذلك الوقت, ثم ضعفت وتوارت مع ظهور الموسوعات العلمية الكبرى في العلوم الدينية, الحديث والتفسير والفقه وأصول هذه العلوم كمصطلح الحديث, وأصول التفسير وأصول الفقه, ثم هي اليوم تنتشر وتنادى بها جماعات قليلة, مرة تتحدث باسم السلف وأخرى باسم أهل الأثر, والغريب أن من  يعلن أنه سلفي في هذا الزمان فهو متمذهب مقلد حتى النخاع لا في الفروع فقط بل وفي الأصول لمن يقلد فهمهم للنصوص, وليس هم الصحابة حتمًا, بل لمن جاء بعدهم بقرون عدة فالمعلوم مثلا أن الصحابة ما تكلموا في جزئيات المسائل العقدية, خاصة في باب الصفات, وإنما خاض فيها من جاءوا بعدهم بقرون, وحتى أصبح الاشتغال بهذه المسائل, والاختلاف عليها, إلى الدرجة التي يكفر المختلفون بعضهم بعضًا ديدن فئة من الناس, لا يهمها أمر الأمة وواقعها في شيء, بقدر ما يهمها أن يثبت لله صفة بكل لفظ ورد في النصوص كالساق والجنب والملل, وكان من أثر هذا الاشتغال أن ترك هؤلاء الاشتغال بكل ما يتصل بمصالح الأمة العظمى لغير من يشتغلون بالعلم الديني ولا صلة لهم به,  ومثل هؤلاء المتسلفة لا قواسم مشتركة لهم مع أصحاب الرؤى الأخرى, سواء أكانت دينية أم دنيوية, لأنهم لا يرون الإسلام يتحقق إلا بفهمهم له وهذا ما قطع صلتهم بكافة المذاهب والطوائف.

رفض السلفية للعلوم العقلية

رفض بعض من يدعون السلفية للمنهج العقلي هو ما جعلهم يرفضون علم الكلام والفلسفة, بل لعله جعلهم يرفضون كل جديد أو حديث, اعتقادًا منهم أن العقل والنقل متعارضان, ولأنهم ظنوا أن مذاهب المسلمين الأخرى اعتمدت على دليل العقل وأهملت دليل النقل أو لم تأخذ به, والحقيقة الناصعة أن كل منتسب لهذا الدين الحنيف معتنق له بيقين لا يمكنه أن يعتمد حكمًا شرعيًا إلا إن ورد به دليل النقل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم الصحيحة, أو ما لحق بذلك من أدلة كالإجماع والقياس, وحتى المعتزلة المدعى عليهم زورًا أنهم يقدمون دليل العقل على النقل لا يثبتون الحكم الشرعي إلا بالدليل النقلي, وكذا الأشاعرة أيضًا, وأما أنهم يرون أن دليل العقل ودليل النقل يستحيل أن يتعارضا, ولو افترض أنهما تعارضا فالمقدم منهما القطعي, والمؤخر منهما الظني, ودليل العقل قطعي, وفي أدلة النقل ما هو ظني الورود والدلالة, وذلك حصر في مسائل الأصول أي العقائد فهذا أمر لا ينكر وهي دعواهم التي يقيمون عليها الحجج والبراهين, ولعل الكثير من مدعي السلفية لم يطلعوا على هذه المسألة عند المعتزلة وعند الأشاعرة فنسبوا إليهم ما لم يكن لهم برأي ولا صدر عنهم.

وعلم الكلام من يتحدث عنه بسوء يصنع له مثله متوازيًا معه, فأكثر نقاده استعملوه وخاضوا غماره, بأكثر مما استعمله أهله المتحدثون في قضاياه, وهو علم ساعد كثيرًا في صد الهجمات على عقائد الإسلام من أهل الملل الأخرى, والاستهانة به لا تكون الا ممن لم يستطع فهمه, وتوقعت أن أسأل عن نفرتهم أيضًا من علم المنطق وبعض معارف اللغة مثل باب المجاز من علم البلاغة, وإنما يعود كل ذلك إلى عدم القدرة على فهمها, وسوء الظن بمن يستعملها بأنه يترك العلم الديني من أجلها, وإنما هي علوم آلة تلزم لفهم المعارف الإنسانية ومنها علوم الدين.

السلفية والجمود الفكري

اتهام من تسموا بالسلفية بالجمود والتشدد, ورفض التقدم الحضاري بسب تمحور فكرها حول الماضي وإعادة تراثه, دون تجديد فيه, فيه تعميم لا يليق بمن يحترم المعرفة الإنسانية, ففي هؤلاء من ينحو نحو الاعتدال ويتجاوب مع تطورات العصر, مما ينفي عنه هذه التهم, وقطع الصلة مع الماضي أمر مستحيل أصلا فالماضي حتمًا مؤثر في الحاضر والمستقبل, فمن ليس له ماضي أعتقد ألا حاضر له ولا مستقبل, والثقافة بطبيعتها كذا الفكر والعلم, كلها تراكمية يبني ما ولد في الحاضر على ما كان في الماضي, ويبني ما سيكون في المستقبل على ما وجد في الحاضر, والمذموم من العودة إلى الماضي إنما هو الاستغراق  فيه حتى يسد الآفاق إلى الحاضر ثم إلى المستقبل, وهذا الاستغراق لا يتأتى إلّا في حالة واحدة عندما تقلق جماعة من البشر على نفسها, فلا تتواصل مع المعاصرين لها من البشر, ولو كانوا يشاركونها الدين, وهو أمر نادر الحدوث, لأن طبيعة الحياة التغير والتطور, ومن يتسم سلوكهم بالجمود والتشدد, أو رفض التقدم الحضاري بشتى صوره لم يفهموا الماضي ولا الحاضر, وحتمًا لا رؤية لهم للمستقبل, وإن تسموا بأنهم سلفية, فمن يدعون أتباعهم حتمًا لا يقرون مسلكهم, ولكن اليقين أن من سلكوا هذا الطريق سيتوارون عن الساحة لأنهم لن يجدوا من يصغي إليهم.

تهم السلفية للمخالف

بعض من يتسمون في عصرنا بالسلفية فعلا يتساهلون لا في التبديع والتفسيق والتكفير, بل ويتساهلون في اتهام مخالفيهم بغير هذا أيضًا كالإلحاد والنفاق والعمالة للغرب, وحلقات التهم لا حصر لها, وهؤلاء لم يدركوا بعد أن سلوكم هذا ينافي الدين ذاته, كما يتنافى مع سلوك السلف الذي يدعون الانتماء إليهم من الصحابة وتابعيهم رضوان الله عليهم أجمعين.

أما ظهور السلفيات المتعددة فهي قديم لا حديث, فمنذ ظهور هذا المسمى ولدينا سلفيات تتفاوت, منهم من تضيق مناهجهم حتى تكاد ترفض الحياة ذاتها, ومنها دون ذلك, ومنها من نلمس في طروحاته شيئًا من الاعتدال, وإن كان الغالب منها النوع الأول, وأخطرها لا شك من انتهج أسلوب العنف لقسر الناس على أن يؤمنوا بما آمن به واقتنع به.

السلفية ووحدة الأمة

كل فكر منغلق على نفسه, لا يرى الصواب الا  فيما يرى أو يقول, ويريد أن يسود رأي واحد, أو كما عبر بعضهم الاقتصار على قول واحد([3]) ويرفض كل رأي أو اجتهاد سواه, هو فكر خطر, ضرره على الأمة فادح, ولعله فعلا يؤدي إلى تفكيك الأمة, بمعنى ضرب وحدتها في الصميم وجعلها فرقًا وأحزابا متناحرة, وقد ثبت هذا بالتجربة أنه ما شاع التمسك بمثل هذا الفكر الا نتج عنه عنف وعنف مضاد.

السلفية والإرهاب

ربط السلفية بالإرهاب كهذا تعميم لا يصح, وأما أن بين من يعلنون الانتماء إلى السلفية, ويتسمون باسمها بينهم من صلته بالإرهاب حقيقية, وهذا أمر لا شك فيه, وقد ثبت بالأدلة فقد قبض على جماعات منهم يقومون بالعنف, فالسلفية الجهادية المقاتلة إنما هي إعلان عن مثل هذا السلوك.

([1])  أهل السنة بحسب ما نفهم طوائف وفئات, فهم أهل الأثر (الحديث) وهم الأشاعرة والماتريدية, وغيرهم يدعى وصلا بليلى.

([2])  كلهم يقلد مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

([3])  صرح بهذا أحد رؤساء الأقسام بجامعة أم القرى.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

لا دولة دينية في الإسلام

مقدمة [ تمهيد ] المشكلة الأهم في الطرح الإسلامي التنظيري اليوم هي عدم وجود التوافق …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: