إن السعي إلى اكتساب المال بطرق مشروعة هو عمل مشروع لا تثريب على صاحبه، وإن بلغت أمواله القدر العظيم، فالمال نعمة من نعم الله تُطلب، وخير مَن يطلبها مَن عرف الحلال والحرام، الذي يخشى ربه فلا يمتلك إلا ما أباحه الله، أما ما حرّمه فلا يمتلكه ولا يُتاجر فيه، يبتعد عنه ما استطاع، فإذا امتلكه عرف حق الله فيه وحق عباده، أخرج زكاته ولم يمنعها، يعلم أن ذلك هو الطريق الصحيح للكسب، ويترك كل طريق غيره، بثقة في الله، فإنه ولاشك سيربح المال ورضا الله ورضا خلقه، أما طالب الغِنى بشتّى الطرق، لا يهمه من أي طريق اكتسب هذا المال الذي يُراكمه ليتحقق له ثروة يُعرف بها بين الناس، فإن كان موظفًا اختلس وارتشى وجاهد على ألا يترك الوظيفة حتى يبلغ الحد الذي يرتضيه من الغِنى، ويظن أنه ما دام البشر غافلون عنه، فحاله في أمن، ولم يعلم أن ما جمعه من حرام سيفقده إن طال الزمن أو قصر.
والتاجر الذي لا يهمه إن اكتسب أرباحه من غشه للناس، باستيراد سلع مقلدة أو مغشوشة، أو بجعل هامش ربحه مضاعفًا يرفع به ثمن السلعة بما يصل إلى حد الغبن للمستهلك، يشتري سلعته بثمنٍ زهيد، وكل ما ينفقه عليها من نقل وتخزين لا تصل إلى عُشر الثمن الذي فرضه لها، ويتعاون كثير من التجار فيما بينهم ليكون هذا الثمن هو السائد، وكأنه الاحتكار يتضامنون عليه، وإن كان غير معلن، ومرتادو الأسواق يعلمون أن ما يُعرض في أسواقنا من سلع أجنبية تُباع بأضعاف أضعاف أثمانها في البلدان الأخرى، وما يُعرض فيها من السلع المقلدة والتي ترد إليها من دول اشتهرت بهذا التقليد، فإن التاجر الذي يُراكم ثروته عن هذا الطريق فثروته ولاشك غير مشروعة،
وهذا الطبيب الذي همّه كله أن يُراكم ثروة عن طريق حرفته، التي هي من أرقى حِرَف البشر، يُريد أن يعمل ليل نهار، وتتعدَّد الجهات التي يعمل فيها، فيعمل في المستشفى الحكومي، فلا يُعطيه من وقته إلا الأقل، ويمر بمستشفيين خاصين، ويجعل ثمن الكشف على المريض مبلغًا كبيرًا، حتى لا يستطيع الفقير أن يذهب لعيادته، وإن جمع من الثروة ما مكّنه من إنشاء مستشفى خاص له، أو بالمشاركة مع آخرين فرض من رسوم الكشف على المرضى وإقامته في مستشفاه ما يعجز عنه كل مريض من ذوي الدخول المحدودة من مواطني بلاده، الذين يعجزون حتى أن يؤمّنوا على أنفسهم ليجدوا لهم ولعائلاتهم العلاج، فهو يجمع ثروة بطرق وإن كانت في ظاهرها مشروعة، إلا أن الشبهات تنالها، والكسب يكون حلالاً طيبًا إذا لم يؤدِ إلى إضرار بالخلق.
وهذا الذي يجمع ثروته عن طريق لم يعرف من قبل وسيلة للكسب، مثل هذا الذي يدّعي أنه داعية، وهو يشترط لمحاضرته الثمن الكبير، حتى وإن كان دافعه له قناة فضائية تعرض مادة ترفيهية مباحة وأخرى محرّمة وثالثة من المشتبهات، ويأتي في السياق برنامج هذا الداعية أو ذاك، وكان يُحرِّم من قبل مشاهدتها، فتفرض له أجرًا بالملايين، وكان من قبل يدّعي أنه سيطيح بها، فإذا بها تتعاقد معه، ويصبح ثمن سكوته عنها هذه الملايين التي تدخل حسابه.
فقد أصبح هاجس الثروة يسيطر على الكثير من الخلق، حتى يغيب عنهم ما هو حلال لا شبهة فيه، والحرام الذي يحكم بحرمته أقل عباد الله علمًا بالحلال والحرام من عامة الناس، وهم يخدعون بمعسول الكلام أن كل ربح هو تجارة مباحة، ولو كان لما لا يُباع ولا يُشترى، مثل العِلم الشرعي، فالإنفاق منه يزيد صاحبه نقاء يرقى به درجات إلى ساحات فيها يشيع الهدى فهنيئاً له، وفرق بين صاحب علم يبذل هذا العلم لخلق الله دون ثمن يدّخره ليجمع ثروة، وبين صاحب علم يسكن أفخم الفلل ويباهي بما يمتلك من عقارات وسيارات، فالبون بينهما ولاشك شاسع، ولست أوصي هنا علماء المسلمين أن يبقوا فقراء، ولكن ليكن اكتسابهم للمال عن طريق غير عِلمهم، كحرفة أو وظيفة يكتسبون المال منها، ولا يجعلون لعلمهم ثمنًا سوى رضا الله عز وجل.
وحينما أقول كل ما سبق، فإنما أقصد النصيحة لإخواني، أريد لهم الخير وأكره لهم الشر، فالتقوى سادتي تعني أن تجعل بينك وبين النار وقاية بإطاعة الله فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وحرم، زد على ذلك أن تكون ذا مروءة، ترتقي بفضائل الأخلاق والزهد في رذائلها، وتتجنب كل ما يُعاب عليك من القول أو السلوك وإن كان مباحًا، وعلّهم يستمعون إليّ، فأكسب معهم الثواب، فهذا ما أرجو، والله ولي التوفيق.