لعلنا لا نزال نذكر تلك الظاهرة الغريبة، التي كادت أن تكون مهمة كل من لم يجد له عملًا، فإذا به مدرب برمجة عصبية، يدّعي أنها تحل كل مشكلات الناس، وما عليهم سوى ان يحضروا دورات تدريبية، وادعى أن تلك البرمجة علم، ثم اتضح أنها افكار لم تختبر بعد فلم ترقَ إلى أن تصل إلى نظرية، ثم خبت الدعاوى بعلم البرمجة، وبقدرة قادر اختفى من الساحة، فلم يعد له مدربون ولا أكاديميات، لكنه فتح سيلا من دعاوى التدريب على فنون مختلفة، يجمع بينها الادعاء الذي لا يعتمد على علم ولا خبرة، ولا يحصل صاحبه على ترخيص لما يقوم به ويخدع الناس به لاستلاب ما في جيوبهم، وتعدى الأمر التدريب إلى انشاء الاكاديميات التي تقدم لروادها دروسًا مختلفة في علوم معترف بها او مدعاة لم يعترف بها أحد، والغريب الا أحد يتساءل هل حصلت هذه الاكاديميات على تراخيص من جهة رسمية معتمدة، أم ان التعليم والتثقيف قد أصبح حرفة كل عاطل عن عمل، جرّب أن يعمل في فن ففشل فتخيل انه يستطيع أن يكون له معلمًا، يدرب المبتدئين فيه عليه، وانظر اليوم إلى ساحتنا وقد امتلأت بالمدربين على كل شيء يمكنك تصوره، هذا يدرب الناس بزعمه على التفكير الايجابي، وآخر يدعى القدرة على تدريبهم على ابداع الافكار، بل لا يتورع مجهول الاختصاص على انه يستطيع ان يدربك على الابداع ذاته، وهذا يعلمك كيف تنشئ مقالة صحفية وآخر يهديك الى كتابة مقالة علمية وأدبية، وهذا يدرب الناس على حل المشكلات الزوجية.. والسلسلة لا نهاية لها، وهناك من انشأ اكاديمية للدراسات الاسلامية، للسيدات، ومع هذا فساحتنا ملأى بمن يوجه الناس لما يريد من افكار يؤدلجها لهم، في العقائد والأحكام وأنظمة السياسية، فمن يتسمى بالداعية او الواعظ، يعقد المجالس لذلك في المساجد والمنازل والخلوات، ونحن بهذا لا ندعو الى تكميم الأفواه أو إلغاء حرية التعبير، ولكن توجيه المجتمع لا يترك دون تنظيم، خاصة اذا ادعى أحد ان ما يطرح علمًا وتثقيفًا راقيًا، لمن لا يمتلك هذا العلم والخبرة في نقله الى العقول، حتى لا يحترف المجهولون توجيه الناس بما ينسبونه الى العلم وراقي الثقافة فيفسدوا على الناس حياتهم ويستلبوا أموالهم تحت الكثير من العناوين، كما أتحنا من قبل لمن زعم انه يدعو للجهاد فألقى المحاضرات وعقد اللقاءات، ثم انتقل إلى أداء الدروس لمن يريد أن يجاهد على طريقته، فضّل بعضهم شبابنا ومراهقينا فأوفدوهم إلى كل بؤرة في هذا العالم يجري فيها قتال، فقتلوا في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ومن عاد منهم إلينا، حوّل عنفه إلينا، ولا نزال حتى اليوم نزيل آثار هذا، وكما سمعنا منهم الغرائب ولا نزال نعاني آثار جهل بعضهم، كذا سمحنا بأن ينشئ أدعياء العلم بالرقى ما كان منها شرعيًا في ظاهره، أو عليه شبهات حتى أصبحت دورهم عيادات تشترط لروادها الشفاء من كل داء، وتدعي القدرة على إبطال السحر، وإخراج الجن من الأجساد، وكم تضرر من هذا الكثير من المرضى واستفحلت أمراضهم حتى لم يعد علاجها ممكنا بسبب ما صنع هؤلاء، ولا تزال عيادات هؤلاء في تزايد مستمر، فهل نحن في حاجة اليوم إلى دراسة واعية لكل هذا، أظننا في أمسّ الحاجة إلى هذا، فنحن حتى اليوم لا نجد جهة رسمية تمنح المحترفين لأعمال كثيرة الترخيص اللازم ليكون عملهم مشروعًا بعد أن تطلع على شهاداتهم العلمية وشهادات الخبرة التي يحملون، ثم تجري لهم أمتحانا تتأكد فيه من صحة معلوماتهم، أما إذا وجدت أنهم يحترفون عملا لا يمتلكون فيه معرفة حقيقية ولا خبرة ممارسة فلتمنعهم من ممارسة هذا العلم، وإني على ثقة تامة في أن جل هؤلاء الذين ملأوا الصحف إعلانات عن أنفسهم بادعاء التدريب أو التعليم أو العلاج سيختفون تمامًا، وينقذ الناس من توجيهاتهم المشبوهة أحيانا، فالعلم والثقافة لا يمكن أن تكون نهبًا لكل من يدعيها، فضرر الأدعياء في هذا المجال عظيم ولعل مشاكلنا الكثيرة تعود إلى أنه تولى توجيه العامة والبسطاء الأدعياء، ممن لا يحسنون شيئا ويدّعون العلم بكل شيء.. فهل نجد شيئا من التنظيم يبعد عنا كوارث الأدعياء، هو ما أرجو والله ولي التوفيق.
الوسومالتثقيف
شاهد أيضاً
إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس
الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …