العرب وممارسة التشويه

لقد اشتهر بهذا الزمان رجال يعترفون بجهل تام في العلوم الشرعية ويفتون في كل أمر ما لو عرض على الخليفة عمر لجمع له الصحابة

العرب أمة اهتمت بالجمال فعشقت الشعر، لأنه أداة وصف الجمال حسًا ومعنى، فامتلأ شعرها فخرًا بمكارم الأخلاق، رأت في صحرائها قبل أن تترك الجزيرة جمالًا أجبرت الناس على الإعجاب به، وحتى عندما يذكر شاعرهم حبيبته فقالوا: شبب بها لأن الشباب مرحلة الجمال واكتماله، كأنهم بذلك يقولون للخلق كلهم: إن أمتع ما في هذه الدنيا هو الجمال، فلما جاءهم الإسلام قبلوه سريعًا لقوة معتقده وقربه لأهل العقول، ولتناسق شرائعه، فالجمال يكتنفه من كل جانب، ولكن الزمان كلما تأخر يفقد الناس شيئًا مما كانوا عليه، حتى إذا بعدت بينهم وبين مورثاتهم الجميلة الشقة، ظهرت الشقوق في هذا الثوب الجميل الذي لبسه العرب على مر الزمان، فكما تراجعت العادات الجميلة لأمة أثرت فيها صحراؤها بجمال ليلها ونهارها، تراجعت ما اكتسبت من مبادئ، ولعل أول مظاهر التشويه الذي نال ما تمتع به العرب من حس جمالي، مورس على الدين من طرفين، طرف لم يرَ في الإسلام ثابتًا إلا ما يتغير بتغير الزمان والمكان، حيث تتغير الأعراف والأحوال، فاستقروا منه ما يهدي إليه الاجتهاد، ولكن ليس اجتهادهم، بل اجتهادات السابقين والتي لا تلائم عصرهم وزمانهم، فقفلوا باب الاجتهاد أو هكذا تصوروا منذ القرن الرابع الهجري ظل بعضهم يدافع عن هذه الفكرة، حتى عاش في أزمنة العرب خارج زمانهم، حتى أن بعض أقطارنا العربية تعيش في زمن لم تتجاوز حتى القرن التاسع الهجري، أو العاشر، بل ويديرون بلادهم بنفس الأساليب التي كانت سائدة آنذاك أو أقل منها، وفي الأحكام وفي قانون الحياة جانب منها، تحتاج إلى هذا الاجتهاد إلا ما كان حكمًا قطعيًا بأدلة قطعية، وما خضع للاجتهاد فهو ما يحتاج إلى التطوير، ذلك أنه يبنى على الأعراف والعادات، وهي تتغير بتغير الزمان والمكان أحيانًا، ورغم أن ما امتلأت به مصادر الفقه فيه خير كثير، إلا أن الغوص في بحرها يحتاج للغواص الحكيم الذي يجد فيها ما يلائم العصر فيستحضره ويضيف إليه باجتهاده، ومن صور التشويه أن يعمد طرف إلى حمل معول هدم باسم العصرية، فلا يستبقي من الماضي شيئًا، حتى يعتدي الغِر الجاهل على كتاب الله، أو الأحكام الثابتة في الدين، وكأنه يرى فيها قيودًا تمنعه أن يحقق غاياته وما يرغبه، والتغيير الذي ينشده لا يستطيع أن يصنعه وإنما يأتي به من صديق على غير دينه، أو عدو متربص به يريد أن يرهقه بكثرة الأخطاء، فلا يمنحه من فكره إلا ما فيه هدم ولا بناء، وترى من العرب ما يتعلق بقول مستشرق راهب في القدح في الإسلام، فإذا به يكون له عونًا على نشر قدحه بين عامة المسلمين، ويعتبر هذا تنويرًا، وهي في الأصل إليها تهويلًا، لا يراد منه سوى الهدم ويغيب عنه البناء، واشتهر بهذا في الزمان رجال يعترفون بجهل تام في العلوم الشرعية، ويفتون في كل أمر ما لوعرض على الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو قدرًا في العلم لجمع له الصحابة، ويسمى هذا مفكرًا بل وينسبونه للإسلام ويقابله هذا آخر يظن أن الدين غلو وتشدد مع جهل واضح بالمعلومات الشرعية الدقيقة، وتراه عبر وسائل الإعلام وفي شتى المجالس يلقي بالكلام على عواهنه، يحرّم ويحلل، ولا تجده يذكر دليلًا واحدًا على ما يقول، ولو ضممت إليه أمثاله من هؤلاء الذين احترفوا الثرثرة، لرسموا للدين صورة تحمل أعظم تشويه لهذا الدين الحنيف، ويستمع الناس إلى هذا فيظن الجاهل أن هذه هي حقيقة الدين، وما أبعدها عنه، وكلا الطرفين يشوهان الدين، وكما هو أمر الدين تأتي العلاقة بين الناس أفرادًا وشعوبًا، فتلك العلاقات أصابها ما أصاب الدين من تشويه، فهي تحكم بقيم هذا الدين وأحكامه فإذا لم يحترم الناس الدين فلن يحترموا العلاقات فيما بينهم، فترى هذه العلاقات يحكمها كل ما بعد عن العدل، فالفرد إن اختلف مع الآخر من بني قومه أساء له بسهولة، ورأينا سقطات الألسنة تتكاثر في المجتمعات العربية، حتى رأينا الخلافات الفردية تنتقل أحيانًا إلى وسائل الإعلام من صحف وفضائيات بل وإذاعات بعد أن أصبح كل هذا يُمتَلك بوافر الأموال، أما الجماعات فالخلافات بينها يحكمها حينًا اختلاف الطوائف، والانحياز للقبيلة والإقليم، وأصبح الأسلوب السائد يعتمد السباب والشتائم والانتقاص حتى أصبح الناس يعيشون في ضجيج دائم، ونسي الناس أن الدين رابطة أقوى من كل رابطة، وأن الوطن يجمع أهله على مبادئ وغايات توحّدهم وتمنعهم أن يسيء أحدهم إلى الآخر، بل أصبحت اللهجات من أسباب التنافر بل لعلها انضمت إلى لون ممارسة التشويه، فأصبحت اللهجة يُنتقص الناطقون بها، فإذا بك ترى التشويه في كل مكان وفي كل اتجاه، وأصبح لدى العرب أفراد تخصصهم إثارة النعرات طائفية كانت أم مناطقية أم دينية، بل وأصبح لديهم شعوبيون ما أن يقع بين حكومتين من الحكومات العربية إلا وتطوع هؤلاء بإثارة النعرات بين الشعبين، حيث ينتقص أحدهما الآخر، فيضاف إلى عداء الحكومات عداء يُستدعى بين الشعوب، وما لم يتوقف العرب عن ممارسة التشويه فلن يتقدموا أبدًا ولعلهم يفعلون فهو ما نرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: