وكأنما هناك عدو للمسلمين خطط لبناء هذه الجماعات والمجموعات التي تفت في عضدهم وتصرفهم عن غايتهم الكبرى في النهوض بأوطانهم
ظللنا زمنًا طويلًا نردد هذه العبارة المناقضة للميكافيلية التي تجعل الغاية تبرر الوسيلة, فالغاية المشروعة لا تبرر الوسيلة إليها, ولو كانت غير مشروعة, وعندنا أن الغاية حتى ولو كانت واجبة لا تبرر الوسيلة لها إذا كانت محرمة, فالوسيلة عندنا إذا كانت تقود إلى المحرم حتمًا فهي باب نسده, حتى وإن كانت هذه الوسيلة في ذاتها مباحة, وإذا كانت الوسيلة تؤدي لما وجب شرعًا فحكمها الوجوب أيضًا, ولكن الغاية المشروعة لا يمكن الوصول إليها في ظل حكم الله وشرعه إلا بما هو مشروع مثلها, فإذا كنت تدعو إلى الله, والدعوة إليه أكثر الغايات مشروعية, لا يصح لك أن تمتد يدك إلى من تدعوهم بأذى, أو لسانك بما يؤذيهم في أعراضهم مثلًا, فالوسيلة هنا محرمة شرعًا, لا يصح من خلالها الوصول إلى الغاية المشروعة وهي الدعوة, بل لعل من يرتكب ذلك لا يوفق أبدًا إلى هداية من ظنهم عصاة, ولعل هذا ما لاحظناه في أنحاء عالمنا الإسلامي, إلى عدد من الجماعات التي ظهرت مؤخرًا, لكل منها منهج وإن جمعها تيار واحد سمّوه التيار الإسلامي, والإسلام دين الهداية والعدل براء من كل مناهجهم وبرامجهم التي التاثت بجهل واضح, وسلوك أقرب ما يكون إلى سلوك أولئك الذين ينشأون في بيئات متدنية, أفرادها لا يعرفون خلقًا, ويهمهم أن يصلوا إلى غاياتهم ولو كان عن طريق الجرائم, ولا شك أن سب الناس أو الوقوع في أعراضهم أو اتهامهم بجرائم فيها حد, أو بالكفر والإلحاد, مما يجري اليوم على الألسنة دون رادع من ضمير أو خشية من الله محرم ومن لم يردعه دينه عن ذلك فحتمًا لا يمكن وصفه داعية أو عالمًا بل ولا طالب علم يتربى في معهده على قيم الإسلام وأخلاقه ويعرف أحكامه, وقد شاعت هذه الأساليب التي حرمها الله في القول والفعل, فقد كنا نسمع على عدد من القنوات الفضائية التي ملأت فضاء دول عالمنا الإسلامي وأسمت نفسها إسلامية أو دينية, أقبح السباب والشتائم والتكفير بأسوأ الأساليب, والتعالي على الخلق, وسمعنا من العبارات ما لا يستقيم مع علم شرعي, يتفوه به رجال لهم مظاهر مخصوصة يعرف بها الناس بعض أهل العلم, ولكن ما يُسمع يجعلك في شك من هؤلاء, فليس هم بالعلماء, وتكاد تجزم ألاَّ علاقة لهم بالعلم الشرعي أبدًا, وأحيانًا تشك في علاقته بالدين أصلًا, ورغم الحديث المستمر عن ذلك من علماء ومفكرين ومثقفين في سائر أرجاء أوطاننا الإسلامية إلاّ أن الأمر لا يزال مستمرًا, وأراه اليوم يتجاوز تلك القنوات إلى منابر المساجد ومجالس الوعظ, وكأن الدعوة إلى الله والوعظ لا تكون إلاّ بهذا الاسلوب الرديء, وحاشا أن يكون أسلوب الدعوة والوعظ بما حرم الله.
وفي بلداننا الإسلامية لم يكن لهذا الاسلوب وجود يوم كنا لا نعرف الجماعات ولا التيارات, وكنا نصغي لعالم الدين فلا نسمع منه إلاّ الكلمة الطيبة, التي تقود إلى إرشاد وبيان للأحكام والآداب وشرح لسيرة سيدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان من يتجرأ على تبديع أو تكفير, إنما يكفّر أو يبدّع الأقوال, وهو قليل, فنبتت نابتة في زمن الجماعات والتيارات أخذت نفس الاسلوب, تتلقاه من الآخرين وتدخله إلى بلادنا, فإذا قال أحدهم بغير علم ولا هدى كتاب أن الله عز وجل يسب, تابعه من نابتتنا من لم يوفق إلى الخير, وإذا رأى أحدهم يطلق لسانه في الخلق لا فلا يسلم منه عرض مسلم, يسب هذا ويشتم هذا ويعرض بالكفر لهذا وبالإلحاد إلى آخر, ثم لا يلبث إلاّ قليلًا فيعرض بالناس كلهم فهم يعيشون زمن التغريب, وهم من يريدون إفساد المرأة, بل قد يبلغ الأمر به أن يعتبر المجتمع كله قد عاد جاهليًا, كما يقول أنداده بل أساتذته الذين أخذ عنهم طرائق الدعوة الجديدة التي لا ترى للأخوة الإسلامية ميدانًا إلاّ من خلال جماعته وتياره, أما من عداهم من المسلمين فهم -حسب زعمهم- إمّا مرتدون عن الإسلام, أو هم أهل الجاهلية الحديثة, والتي يرون أنها شملت عالمنا الإسلامي كله, فقد جاءت هذه الجماعات لتفرق بين المسلمين وتشق صفهم, وحتى لا تتحقق لهم نهضة أبدًا, وليعيش المسلمون أبدًا في هذا الضعف الذي توالى إلى حد أن التغلب عليه كاد أن يكون مستحيلًا. فهذه الجماعات المدعية أنها إسلامية هي الداء الذي أصاب الأمة في هذا العصر فزادها ضعفًا وتأخرًا, في زمن كانت البوادر فيه كلها تشير إلى أن نهضة أوطان المسلمين قادمة, فقد انتعشت حواضر الإسلام الكبرى بمعاهد العلم والجامعات, وتنتشر مدارس ومعاهد العلم في أرجائها, وبدأ شعور الكرامة يشيع بين مواطنيها, وكثير منها استعاد السيطرة على ثرواتها, وكأنما هناك عدو للمسلمين خطط لبناء هذه الجماعات والمجموعات التي تفت في عضدهم وتصرفهم عن غايتهم الكبرى في النهوض بأوطانهم وتقدمها لتكون دولًا قوية, تأخذ مكانتها بين دول العالم, فتهابها الدول من حولها, وليصبح التقارب بين دولهم ممكنًا, فينشأون قوة في العالم تزاحم القوى المسيطرة على هذا العالم اليوم, لا أن تكون دولًا متفرقة ضعيفة كما تريد لها هذه الجماعات والمجموعات التي تهدف إلى فرقتهم وتعاديهم حتى تتفكك الروابط بينهم, ويسهل لهذه الجماعات أن تنفرد بكل دولة على حدة, فيكون لها فيها الأمر والنهى, فتحكمها بما صنعت من مناهج لا صلة لها في الحقيقة بالدين, وإنما تحقق لهذه الجماعات مصالحها, وهو الأمر الذي لن يصلوا إليه أبدًا لأن هذا الدين باقٍ ظاهر إلى يوم الدين, وهو ما نرجو, والله ولي التوفيق.