الفتوى في المصطلح الصحفي

الإفتاء منصب عظيم لا يصل إليه إلا من بلغ مرتبة الاجتهاد، وهي المرتبة التي لا يبلغها من العلماء إلا أوسعهم علمًا وأعظمهم اطلاعًا على علوم الدين المتنوعة، التي تمتلئ خزائنها من علم استقاه من وفقهم الله لتتبع هذا العلم الذي مصدره كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- وفق ما وضع أسسه المشرع الأعظم أصلًا وهو الله عز وجل، والمشرع نيابة عنه بما اصطفاه عز وجل وهو سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذه المرتبة العظيمة سنجد أنه لم يبلغها من العلماء إلا القلة مثل الأئمة الأربعة: الإمام أبوحنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، وقل إن وجدنا بعدهم من بلغها إلا قلة قليلة عبر الزمان، ولكنا وجدنا علماء كبارًا انحصر علمهم في مذاهبهم.

ذلك أن شرط الإفتاء باتفاق الاجتهاد، والاجتهاد لا يقوم به إلا من ذكرنا، ومع الاجتهاد العدالة: وهي معنى منضبط يشمل أن يأتي المجتهد ما أمر الله به، وأن يترك كل ما نهى الله عنه، وهو فوق ذلك يحمي عرضه ويصونه أن يقع فيه الناس بألسنتهم، فيترك كل ما يعاب على الإنسان عرفًا، وهذه هي المروءة التي يتصف بها العدل من المسلمين.

وثالث الشروط أن يكف عن الترخص والتساهل، يتوازن بينهما لا يتتبع الرخص ولا يتساهل، بمعنى ألا يتساهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ ببادئ النظر وأوائل الفكر، فيقصّر في حق الاجتهاد ولا يحل له أن يفتي حينئذ ولا يتساهل في طلب الرخص وتأول السنة فهذا يتجاوز في اجتهاده.

لذا كانت الفتوى في عهد أهل العلم الأوفياء لما حباهم الله به من العلم لها أسوار لا يتخطاها المفتون، فقد حذر الصحابة والتابعون من الاستعجال في الفتوى دون أن يدرك المفتي آلياتها.

فقد قال محمد بن المكندر -رحمه الله-: العالم بين الله تعالى وخلقه فينظر كيف يدخل بينهم، وقال الإمام النووي: (اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، كثير الفضل، لأن المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه معرض للخطأ). وقال عبدالرحمن بن ليلى -رحمه الله- (أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. وقال: ما أحد منهم يحدث حديثًا إلا ودّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا).

وقال عطاء بن السائب: (أدركت أقوامًا إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء فيتكلم وانه ليرعد)، وروى الأعمش عن أبي وائل شفيق بن سلمة قال: (قال عبدالله بن مسعود: (من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فيه فهو مجنون).

وإذا كانت الفتوى لا تكون إلا من مجتهد فليست هي كما يقول البعض أنها البيان عن الحكم الشرعي، فمن الأحكام الشرعية، ما هو معلوم من الدين بالضرورة لا يكاد يجهله مسلم، وإنما الفتوى فيما لا نص فيه ولم يستقر فيه حكم، يجتهد العالم للوصول إلى حكمه عبر النظر في الأدلة، إما من يذكر الأحكام المستقرة المعلومة المعروفة أدلتها والمتداول حكمها بين الناس فبيانها لمن يجهلها ليست فتوى، كما أن التحريض على القتل ليس فتوى، فالقتل إما أن يكون قصاصًا أو حدّا وهذا من اختصاص القضاء.

والآراء المجردة التي تحلل قولًا أو فعلًا أو تحرمه دون تأصيل شرعي ولا سوق أدلة شرعية ليست فتوى ولا هي بيان لأحكام مستقرة وهي آراء لأصحابها لا أهمية لها.

والفتوى في ذاتها وهي اجتهاد للكشف عن حكم شرعي عبر أدلته التفصيلية ليست ملزمة وإفزاع الناس إن لم يتبعوا فتوى معين ممن انتسبوا للعلم أنهم يخالفون الشريعة أو الإسلام هو هذيان لا معنى له ولا يعتبره أحد من أهل العلم.

لهذا فإن ما يوصف بأنه فتوى عبر الصحف جله مما ليس هو في الحقيقة فتوى، ولا بيان لحكم شرعي ثابت، وكثير مما نقرأه فيها بهذا الوصف لا يعدو كونه رأيًا مجردًا قيمته كقيمة الكثير من الآراء، منه ما يقبل لوجاهته، ومنها ما يرد لأنه يوحي بتعصب للرأي أو التيار أو المذهب، فهل نحن مدركون لهذا، هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: