الذين يماهون اليوم بين أقوالهم وبين الإسلام فإذا خالف رأيهم أحد قالوا إنما يخالفون الإسلام إنما يحاولون إنشاء أسوأ صورة للحكومة الدينية التي عرفها غير المسلمين
لا أحد من المسلمين يعتقد أن الإسلام غير واجب التطبيق، فما أنزل الله الكتب وما أرسل الرسل إلا ليقوم الناس بالقسط فالله عز وجل يقول: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ولا شك أن الرسل -عليهم السلام- أول من أوكل إليهم تطبيق ما أنزل عليهم، ولهم العصمة فلم يخطئوا فيما نقلوا إلى الناس من الوحي، ولا في تطبيق ما جاء فيه من أحكام، ومن عداهم لا يملكون هذه العصمة، فلم يوكل إليهم التطبيق دون خطأ، فهم من البشر الخطائين، وخيرهم التوابون، لهذا لم يكن في الدين الموحى به حكومة تدعي أنها الواسطة بين الخلق وخالقهم، تلزمهم بفهمها لأحكام الوحي وتجبرهم على أن تطبقها عليهم بفهمها، لهذا امتنع في الإسلام أن تكون هناك حكومة دينية، فيها رجال من البشر يحتكرون فهم نصوص الدين ويحتكرون صور تطبيقه، وعلى هذا الأساس يمنحون الخلق صكوكًا تثبت إيمانهم وأخرى تدينهم بالكفر، بل ويتعدى الأمر إلى المنطق الخطر، فيحكم لهم بالجنة أو النار، كما كان الحال في القرون الوسطى المظلمة في أوروبا، والتي بلغ فيها الأمر أن تباع صكوك الجنة، وخدع الناس بأحكام كثيرة ليست مما أنزل الله على سيدنا عيسى -عليه السلام- والرسل قبله، أما الإسلام فمنذ ظهوره وحتى انتشاره وحتى يوم الناس هذا، لم يعرف فكرة الحكومة الدينية على هذه الصورة، فأحكامه الثابتة المقطوع بها لا اختلاف عليها بين أهله، وما دون ذلك مما للاجتهاد مدخل فيه فهو جهد بشري لا يلزم به الناس إلا إن أجمعوا عليه والحاكم ليس له درجة دينية تمنع عنه المساءلة، أو تعطيه الحق في أن قوله نص مقدس لا يخالف، والمتتبع لأزهى عصور الإسلام بعد سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عهد الراشدين سيجد للصحابة اختلافًا فيما بينهم وبين الخليفة، لم يمنعهم من ذلك أن كلهم وارث لعلم النبوة الذي تلقوه من صاحبه مشافهة، فلم يروا لأقوالهم قدسية يجبرون الناس على اتباعهم فيها، حتى جاء بعدهم أتباع وأتباع أتباع رأوا أنهم اختلفوا فيما بينهم، فنحن رجال وهم رجال، لا استهانة بهم ولكن لإثبات أن الاجتهاد حق للجميع فيما لم يرد به نص قاطع أوإجماع لا تجوز مخالفته، والأحكام الشرعية الفقهية أو ما نسميه الفروع، وهي قوانين الحياة المعاملات بشتى صنوفها وألوانها والعقوبات الجزائية غير المقدرة شرعًا التي نشير إليها بعقوبات التعزير، إنما هي أحكام اجتهادية أي جهد بشر لتنتظم الحياة، فيها شبه بالقوانين الوضعية، وهي إذا بنيت على الأعراف والعادات تغيرت بتغير الزمان والمكان والأحوال، ولا ينكر هذا إلا من جهل العلم الشرعي، وبعض العلماء يقولون عن المجتهدين بأنهم الموقعون عن الله -عزوجل-، وكأن اجتهاداتهم تشريع مثل الذي شرع الله، بينما المفترض أنه يرسخ في أذهاننا أن المجتهد به تشريع بشر قد يخطئ فيه المجتهد فيصوب، ولا يصح له أصلاً أن ينسبه إلى الشارع الحكيم الله عزوجل أصالة وسيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لذا حذر العلماء بعضهم بعضًا إذا اجتهد في مسألة أن يقول: هذا حكم الله، يروي ابن القيم عن بعض السلف أنه قال: «ليتق الله أحدكم أن يقول: أحل هذا كذا وحرم كذا، فيقول الله له: كذبت لم أحل كذا ولم أحرم كذا، فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلم ورود الوحي المبين بتحليله وتحريمه، أحله الله وحرمه لمجرد التقليد أو التأويل، ونهى سيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أميره بريدة برضي الله عنه أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله وقال: (إنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك)، ولما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكمًا حكم به فقال: «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب»، وهذا كله حتى لا يتصور أحد أن قوله واجتهاده مثل حكم الله، فيرى في مخالفته مخالفة لشرع الله فالمعلومة بداهة أن من يخالف حكم الله وشرعه كافر خارج عن الملة، وفي هذا إسلام لمخالف للرأي البشري إلى إزهاق روحه، وهو أخطر الجرائم في الإسلام، والذين يماهون اليوم بين أقوالهم ومقترحاتهم وبين الإسلام فإذا خالف رأيهم أحد قالوا: إنما يخالفون الإسلام من هذه الجماعات التي تنسب نفسها للإسلام وهو منها براء، إنما يحاولون إنشاء أسوأ صورة للحكومة الدينية التي عرفها غير المسلمين ولم يعرفها الإسلام طول تاريخه وفي أزهى عصوره، فالقاضي وهو الذي يحكم بشرع الله قد يخطئ فحكم بغيره لهذا كان في الجنة قاض وفي النار قاضيان، ونسأل الله عز وجل ألا يبتلي المسلمين بمن يرى أنه المشرِّع الوحيد لهم الناطق باسم شرع الله وحده وأن مخالفيه يخالفون الله فمثله في الاستبداد لم ولن يرى البشر، فهل نحن ندرك هذا.. هو ما أرجوه والله ولي التوفيق.