بيع الأوهام

كدنا نحكم بأن الرقية وتعبير الرؤى وعلاج المسّ من الجان مهنة وحرفة من لا مهنة له.. ألم يأنِ الوقت لتحريم بيع الأوهام في بلادنا؟!

لا أدري لماذا ينجح في وطننا من يبيع الأوهام ويروجها؟, ويجد من الناس من يتقبل منه هذه الأوهام ويشتريها, فهذا راق يدّعي أن له القدرة على شفاء جميع الأمراض, بل ويشترط على المريض أن يسمع كلامه وأن يتناول ما يقدمه من دواء, الذي في كثير من الأحيان لا يتجاوز ماءً أو زيتًا أو شيئًا من الأعشاب, حتى وجدنا من يطحن نوى التمر ويقدمه لمريض السرطان سفوفًا, ورغم كشف الكثيرين منهم إلا أنهم لا يزالون منتشرين في المدن والقرى, والثقة بهم بين العامة تجعلهم يترددون عليهم, وأمراضهم تزداد وتتضاعف آلامهم, ولا يعودون إلى طلب العلاج ممن يقدمونه لهم بعلم -أي الأطباء- إلا بعد أن تتدهور حالتهم, ويعملون يقينًا أن ذاك الراقي المزعوم كان يبيعهم أوهامًا, ما أنزل الله بها سلطانًا, والمعلوم أن الرقية بآيات من كتاب الله أو أدعية مأثورة مشروع, له من الصالحين رجال إذا رقوا به أنزل الله على المريض شفاءً من عنده, ولكن الرقية لا تمنع أن يطلب المريض أسباب الشفاء على يد طبيب متخصص في المرض الذي يعانيه, ولا تعارض بين الأمرين, ولكننا لا نعلم أن أحدًا من السلف قصر عمله على الرقية واتخذها حرفة, وأدعى أنها علم قائم بذاته, فلم يخبرنا التاريخ عن عيادات للرقية تنتشر في عرض البلاد وطولها, وأما الوهم الآخر المنتشر المتمثل في تعبير الرؤية, والذي عُرف به اليوم رجال هذه الأيام يبيعون للناس الأوهام عبر وسائل الإعلام, على شاشات التليفزيون وفي الصحف, ولهم مجالس يدعى إليها الناس, ويدّعون أن تعبيرهم للرؤى قائم على علم شرعي معتمد على النصوص, ونقرأ لهم ونسمع منهم تخاريف في تفسيرهم الأحلام تضحك, حتى أن أحدهم اليوم يزعم أن له من هذا العلم ما يجعله ينشئ أكاديمية تدرب الناس على تفسير الأحلام وتأويلها, لعلم خص به له قواعد ومبادئ وضوابط, وستمنح المتدربين درجات علمية جامعية كالماجستير والدكتوراة, والمعلوم بداهة أن تعبير الرؤى يعتمد أساسًا على الفراسة, وهو لون اجتهاد ممن أوتي هذه الملكة, وهو فوق ذلك لا يدعي أن تعبيره للرؤية استمده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- وأنها حق لا مرية فيه, فليس بين العلوم الشرعية علم للرؤى نقله خلف عن سلف, وله قواعد وأصول كما يدعي جاهل بالعلم الشرعي, أما ماكان من تعبير سيدنا رسول الله للرؤى فحتمًا هو بأبي وأمي لا يقول إلا حقاً, وليس هو كبقية البشر, الذين يخطئون ويصيبون, وكم عبّر أحدهم رؤية لمواطن سرب بها اليأس إلى نفسه, أو توقع له شرًا لا يقع, وكم عبّر آخر رؤية مواطن ثان بما يدخل السرور على نفسه ويجعله يتوقع ما لم يحدث أبدًا, وما ذاك إلا أنه جاهل بالرؤى, ولم يحط بعلم الدين, فأتته الخطيئة من قبل جهله ورغبته في شهرة ولو كانت تأتي بمضرة خلق الله, وأسوأ ما يقع فيه المدعي لعلم الدين, أن يتاجر بعلمه فيشتري دنيا بدين, يخدع الناس بالتظاهر بالعلم والالتزام بالدين ليحقق لنفسه مالاً وشهرةً, وعلى العلماء أن يبينوا للناس الحق حتى لا يخدعوا بمن يقول لهم هذا هو من الدين, وليس كذلك حتمًا, ثم ماهي حاجة المجتمع اليوم تعبير الرؤيا, في زمن يسهل فيه الوصول إلى الحقائق بعلم وتجربة, وقد رسم لنا سيدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما نتعامل به مع هذه الرؤى, فيرشدنا إذا رأى أحدنا ما لا يسره, استعاذ بالله من الشيطان, ولم يروِ ما رأى لأحد, وجزم بأن هذه الرؤية لا تضره, وإذا رأى ما يسره كان له أن يرويه لمن يعلم أنه محب له, ولو كتم ذلك كله فلا بأس به, والمؤمن حقًا يعلم يقينًا أن ما قُدِّر له من خير أو شر واقع وإذا كانت الرؤية هي جزء من أربعين جزءًا من النبوة, فذاك لا يكون إلا لمؤمن صادق الإيمان, لعل الله يخصها به, وهو إن رآها واطمأن لها أدخلت السرور على نفسه, وليس في حاجة لمن يعبرها له أو يفسرها, فنحن في هذا الزمان نهتم بالتوافه ونترك ماهو من عظائم الأمور, فيهتم بعضنا بالرؤى وتشغله عن أن يرى ما تحتاجه الأمة من حل لكثير من المشاكل التي أحاطت بها من كل جانب, ويشارك إخوانه في حلها بما تخصص فيه وحصل على الخبرة فيه, ولكن الذي نراه أننا نهتم بالرقى وتعبير الرؤيا, وما يستطيعه الساحر من ضرر للخلق سواء أكان ضررًا واقعيًا أو متوهمًا, وبالجن وما يصنعونه من شرٍ للخلق فيدخلون إلى أبدانهم ويعشقونهم ويمرضونهم, ونضيع في هذا السبيل الكثير من الوقت والجهد, الذي لو بذلناه فيما ينفع الأمة لتغيرت أحوالها, ولا أدري لماذا يعشق بعضنا هذه الموضوعات؟, ولا تجد له مشاركة فعلية في كل ما ينفع وطنه وأهله, غايته أن يشتغل بمثل هذا لأنه الأيسر له, حتى إننا كدنا أن نحكم أن الرقية وتعبير الرؤى وعلاج المس من الجان مهنة وحرفة من لا مهنة له, ألم يأن الوقت أن نحرّم بيع الأوهام للناس في بلادنا,
هو ما أرجو والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: