رمضان واختلاف الزمن

كم يسعد المؤمنون بقدوم شهر الطاعات سيد شهور السنة رمضان الكريم، فهو شهر تتلذذ فيه قلوب آمنت بالله وراقبته بأداء مختلف الطاعات من صلاة وصيام، وأداء عمرة فضلها كفضل الحج، وذكر باللسان والقلب، وإمساك عن الطعام والشراب والشهوة تعلمًا للصبر وكبحًا لجماح الأنفس الأمّارة بالسوء، وإمساكًا عن اللغو والزور (الكذب)، والجهل (السفه)، وأن يحقق في نفس المؤمن نصيحة سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تغضب.. يكررها لكبح جماح الغضب المؤدّي إلى فساد في العلاقة بين الناس، يرشده إذا سابّه أحد أو شتمه أن يقول: إني صائم.
رمضان عظيم الأثر في نفوس المؤمنين إن فهموا دينهم فهمًا صحيحًا، واتبعوا أحكامه، والصوم فيه لا يدعو إلى الكسل، ونوم النهار وسهر الليل، فهذا أمر يضيع الأوقات فيما لا نفع فيه، والعبد يحاسب عن أربع وردت في حديث سيدنا معاذ -رضي الله عنه- (لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وعن علمه ما عمل فيه)، فما خلقنا الله ليتركنا هملاً، فقد كلفنا وأراد منا أن نقوم بما يرضيه عنا، وأهم ما كلفنا به العمل فقال عز وجل: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، ولا أحد يخصص العمل في الآية أنه عمل ديني بحت، فالعمل للدنيا تضبطه الأحكام التي شرعها الله، فما التزم المؤمن بها فهو يرضي الله ولا يخالف أمره ويجتنب نهيه، فعمله أيضًا عبادة لله خالصًا ما دام يؤديه كما شرع الله، وإذا كان هذا في كل شهور السنة فهو ألزم في شهر رمضان.
وكان المسلمون لا ينصرفون عن أعمالهم لاكتساب الرزق أو العمل الذي ينالون عنه أجرًا لمجرد أنهم صائمون، كما يفعل الناس في زماننا، فتجد في رمضان أن إنتاجية الموظفين صفر، فهم إمّا نائمون أو غائبون، وتجد الناس في الطرقات، وفي الأسواق منحرفي المزاج، تثور بينهم المشاكسات لأقل الأخطاء، والزعم أن السبب أنهم صائمون، مع أن الصوم من مقاصده أنه يدربهم على الصبر.
فهذه أساليب كانت تختفي في أزمنة للمسلمين قد مضت، خاصة في صدر الإسلام، والرعيل الأول من الصحابة الذين عاصروا نزول القرآن، والتكليف الأول بالدين، علموا دينهم حق العلم، فلم تختلف أعمالهم في رمضان عن غيرها في سائر الشهور، وإن ازدادت الطاعات فيه، ولم يجعلوه شهر كسل وعدم عمل أبدًا، وممّا يعيب أهل زماننا إقبالهم على الطاعة فيه، فإذا انسلخ الشهر عادوا إلى ما كانوا عليه من إهمالهم لفعل الطاعات، وانشغالهم بدنياهم ..وقد رأينا فيمن سبقونا من الآباء والأجداد، الذين عشنا في كنفهم أول أعمارنا ما كان يهدي إلى أن شهر رمضان لا يقتضي تغيرًا في الأوقات، فالنهار هو النهار الذي يعمل الناس فيه، فلا تعطل فيه الأعمال، ولا تضيع مصالح العباد، لمجرد أن من يلون ذلك منهم صائمون، وعندهم الصوم والعمل لا يجتمعان، والليل هو الليل يقومون بعضه وينامون بعضه، يجتهدون في العبادة صلاة وصيامًا وذكرًا وتلاوة ويقومون بسائر أعمالهم.
فهل يعود العباد إلى سيرتهم الأولى، فلا يفرطون في أعمال لهم يرونها دنيوية وهي من صلب عبادتهم لربهم، ولا ينحازون إلى أعمال هي شعائر للدين لا يرضى الله أن تحيف على عبادات أخرى عملية يجب أداؤها بإخلاص. إنهم إن عادوا إلى ذلك صححوا الخطأ الذي وقعوا فيه، وقدموا للعالم النموذج الأمثل للعبد الذي يرضي ربه بعمله للدنيا والآخرة فهل يفعلون؟! هو ما أرجو، والله ولي التوفيق.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

إذا تنكرت الدنيا للإنسان لمرض وانقطاع عن الناس

الإنسان ولا شك كائن اجتماعي لا تلذ له الحياة إلا بالاختلاط بسواه ممن خلق الله، …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: