لعلَّ هذا الزمن الذي نعيشه اليوم، زمن بلغ الاضطراب في المجتمعات الإنسانيَّة أقصى مداه، لما ينخر فيها من أسباب الصراعات العسكريَّة والسياسيَّة والدينيَّة، واختلاف القيم والثقافات، ورغم أنّ بعض هذه المفردات كانت سببًا للتنوّع المفيد، كاختلاف الثقافات، وألوان النظم الإنسانيَّة، إلاَّ أنَّها أصبحت في هذا الزمن سببًا للصراعات لتدني مستويات التفكير لدى كثير من البشر، كانت بدايات هذا عندما وجد الغرب أنَّ الاعتماد على ثروات أرضه وعالمه لا تكفيه، فعزم على احتلال أراضي غيره من الأمم والشعوب؛ بحجّة تبريريَّة غبيَّة، أنَّه سيعمر تلك الأقطار حضاريًّا، وأنَّها تعيش تخلُّفًا هو مَن سيساعدها على تجاوز أضراره، والغاية الحقيقيَّة أن يستولي على ثرواتها من أجل مزيد من التقدُّم يحققه عبرها، واستطاع في زمن قصير أن يسيطر على جُلِّ أقطار العالم عبر حملات عسكريَّة ودينيَّة، وثقافيَّة أيضًا، وإن لم تكن هي المقصود في الأساس، ولا تزال أقطار من الشرق تئن من آثار ما سُمِّي استعمارًا، وهو في الحقيقة تدمير لحضارات أخرى، وتحقيق مطامع اقتصاديَّة وسياسيَّة كبرى، نتج عنها تطوّر متزايد في الحياة الغربيَّة، ومزيد تدهور في الأقطار الشرقيَّة والجنوبيَّة، ولا تزال آثاره بارزة حتى يوم الناس هذا؛ ممَّا أيقظ في الشرق الرغبة العارمة في النضال من أجل الاستقلال، وتولّد من خلاله عبر جماعات اتَّخذت الدِّين عنوانًا للسيطرة على مجتمعات الشرق، ومنها ما انحرف عن قيمه وأخلاقيَّاته، فظهرت الجماعات المتطرِّفة جدًّا، وغذَّاها الغرب بعدوانه الدائم على الأقطار الأخرى؛ ممَّا جعل العالم اليوم مسرحًا لأحداث مرعبة لم تقتصر على الشرق، بل وأخذت تضرب استقرار دول الغرب بمعول إن استمرّ هدمه تلاشت حضارة الغرب المفتخر بها دومًا، رغم عظيم معايبها التي لا تخفى على عاقل، عرف حياة الغرب وما يجري على أرضه، فالإفقار أصبح بفعل الاستعمار الغربي، وما ولَّده من اضطراب هو الداء السائد للقضاء على كلِّ الحضارة، وعلى الرأس منها حضارة الغرب، فالقلاقل إذا عمَّت الأوطان أزالت كل مظاهر الحياة الآمنة المستقرة، ولعلَّنا اليوم ندرك بوضوح عملها السريع والمتصاعد في أقطار عدَّة شملتها حروب مجانين العصر، فلم تحقق سوى الدمار للحياة الإنسانيَّة في كلِّ قطر مرَّت به، وأيًّا كان التبرير لهذه الحروب، فهي حروب الدمار لا تغيير فيها إلى الأفضل؛ حتَّى وإن نُعتت أنَّها ثورة ونضال، بل هي الفساد في الأرض الذي لا يبقى للحياة على وجهها أثر، وهي اليوم كجائحة تمرُّ بأوطاننا -عربًا ومسلمين- لتدمّرها تمامًا، ولتجعل أهلها راحلين في شتَّى الأرجاء، يبحثون عن الأمن لأسرهم، علَّهم ينجون ممَّا تسببه من رعب وإزهاق للأرواح، وعذاب مرعب يقوم به قوم لا عقول لهم، ولا دين، وبقي النضال الحقيقي في هذا الزمان، والمهمّة الأسمى لنا كأمَّة وشعب مسلم، أو عربي، هو أن نحافظ على أوطاننا، ونحمي حدودها، وننقّي داخلها من كلِّ صاحب شرٍّ يحمل لها في صدره بغضًا وعدوانًا، فلا أمان إلاَّ أن نلوذ بأوطاننا نحميها وندرأ عنها الأخطار، ولن يتمَّ ذلك إلاَّ عبر الحفاظ على وحدة وطنيَّة تذوب فيها كل الطوائف والفرق، فلا تتناحر، بل تتعايش وفق مبادئ راسخة ومنضبطة، مرجعها العقل والشرع، فكلّ اختلاف مدمّر للحياة شرُّ لا خيرَ فيه، ولعلَّنا حتَّى اللحظة قادرون على ذلك، إنْ أردنا السلامة لأوطاننا وحياتنا، نزرع الود بيننا حتَّى ينجينا من اختلاف يدمرنا، وهذا هو الاختبار الوحيد في زمن الفوضى التي زرعت في بلدان من بلداننا مثالاً لما سيحدث بعد في سائرها، وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يلهمنا الصواب؛ لنحفظ الوطن وأهله من كلِّ شرٍّ، فهو غايتنا التي نعيش من أجلها.. والله الموفق.