عالم مكي موسوعي لم يعرفه الناس

حينما اقترح إخواني في مجلسنا العلمي أن نقرأ كتاب “رياض الصالحين من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد العارفين” للإمام محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، رحمه الله تعالى، المولود عام 631هـ والمتوفى عام 676، والذي لم يعش سوى أربعة عقود وسنوات، وترك رصيدًا كبيرًا من التراث العلمي الذي لم يسبق إليه في نفس سنوات عمره وظروف معاشه.
حينما اقترحوا عليَّ ذلك عدت إلى كتابي الذي قرأته على يد مشائخي، وما علقته عليه، وأبحث عن شرح للكتاب، فهديت إلى كتاب “دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين”، لعالم مكي شهير هو الشيخ العلامة محمد علي بن علان بن إبراهيم بن محمد بن علان البكري الصديقي الشافعي قال عنه المشرف على طبع كتابه الشيخ محمود حسن ربيع من علماء الأزهر: (واحد الدهر في الفضائل، أحد العلماء المفسرين، والأئمة المحدثين، عالم الربع المعمور)، نشأ ببلده (مكة)، وحفظ القراءات، وحفظ عدة متون في كثير من الفنون، وتصدى للإقراء وله من السن 18 عامًا، وباشر الإفتاء وله من السن 24 عامًا، وجمع بين الرواية والدراية، وكان إمامًا ثقة من أفراد أهل زمانه معرفة وحفظًا واتقانًا وضبطًا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعالمًا بعلله وصحيحه وأسانيده، وكان شبيهًا بالجلال السيوطي في معرفة الحديث وضبطه، وكثرة مؤلفاته ورسائله، حتى قيل: سيوطي زمانه.
وأقول بعد أن اختتمت قراءة كتابه (دليل الفالحين) مساء الاثنين 16/2/1436هـ: إن ما ذكره الشيخ عنه ينطبق على واقعه تمامًا، ففيه من العلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلومه ما يدل على فضله، ومن سيقرأ الكتاب سيعرف عناوين مؤلفاته وقد أدرجها بين سطوره، فهو عالم موسوعي لم يترك فنًا من علوم العربية والدين إلا وألّف فيه كتابًا أو رسالة، يقول المحبي في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر: (إن لابن علان أكثر من أربعمئة مؤلف ما بين مطول ومختصر، وأنه كان غزير الإنتاج إذا سئل عن مسألة ألّف رسالة (بحثًا) في الجواب عنها)، ومن يقرأ كتابه: (أنباء المؤيد الجليل مراد ببناء بيت الوهاب)، والذي حققه منتسب للجمعية التاريخية السعودية، في سلسلة الأعمال المحكمة في التاريخ والحضارة عن عمارة الكعبة المشرفة في عهد السلطان مراد الرابع، وقد ألف ابن علان رحمه الله كتبًا ثلاثة عن السيل الذي هدم بيت الله الحرام عام 1039هـ وقد اهتم -رحمه الله- بتاريخ الكعبة والحرم المكي والحجر الأسود وكتبه في هذا المجال شاهدة على عنايته بذلك أتم العناية، وهي نابعة من محبّة للمكان، وما يُمثّله، وهو موقع طفولته وشبابه ثم عمره كله، وهو من لا يغادر المسجد الحرام، تعلّم فيه وعلّم وألّف، وحضر كل المناسبات فيه، وكان شغله الشاغل عمره كله طلب ال
فهم مراد الله وشرعه، فهو في علوم اللغة العربية وعلوم الدين لا يشق له غبار، هو المتقدم في هذه العلوم في عصره، والذي كان عصرًا للركود فيما رأى البعض، إلا أن فيه من العلماء من يستحق أن ينوه عنه، حتى لو أخذ عليه بعض الآراء لاختلاف المذهب أو الطريقة، ومن يتتبع مؤلفات الشيخ ابن علان خاصة في الحديث لابد وأن يعجب به، فكتابه الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، ينبئ عن علم غزير في علوم الحديث وفي علم الفقه وعلم السلوك، وحينما نقرأ شرح حديث فيه تمتلئ نفسك بحب الله وحب رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ومن يتابع عناوين مؤلفاته والتي تنتشر بين مكتبات العالم. طبع القليل منها، والمخطوط أكثر ينتظر من يطلع عليه ويقرأه ثم يعتني بتحقيقه وإخراجه للناس حفاظًا على علم عظيم النفع، فتفسيره المسمى: (تفسير سماء ضياء السبيل إلى معالم التنزيل)، وكذا كتابه: (رفع الالتباس ببيان اشتراك معاني الفاتحة وسورة الناس)، وقد كان يُقرئ الناس القرآن وتفسيره ويهتم بختمه كل عام على الأقل مرة في المسجد الحرام.
وفي الحديث الكتابان اللذان ذكرناهما شرحًا لكتابي الإمام النووي “رياض الصالحين” و”الأذكار”، ثم “الابتهاج في ختم المنهاج”، وهو ختم لإقرائه كتاب “المنهاج لشرح صحيح مسلم”، للإمام النووي أيضًا، وفيه تعليقات مهمة، ثم شرح كتاب “الدرة الفاخرة في علوم الآخرة”، للإمام أبي حامد الغزالي، أسماه (غوص البحار الزاخرة للدرة الفاخرة)، ثم كتاب بعنوان: (قرة العين في معنى حديث “استمتعوا من هذا البيت فقد هدم مرتين)، وهو في باب عنايته بالكعبة المشرفة، وله كتاب بعنوان: “النبأ العظيم”، ثم كتابه الذي ختم به صحيح البخاري وأسماه (الوجه الصبيح في ختم الصحيح) ويقصد به صحيح البخاري، وقد أتيح له ما لم يتح لغيره من العلماء، فقد ختم صحيح البخاري في داخل الكعبة المشرفة، رغم مخالفة البعض بقولهم: إن هذا لم يحدث من قبل، وردَّ عليهم وألّف في إباحة ذلك؛ رسالة، وحضر الختم العلماء والرسميون وجمع كثير من الصلحاء كما يقول وعدد من الأتقياء الفلحاء، وقد جلسوا فيما يلي باب الكعبة عند حذاء مجتمع درفتيه من وراء العمد (جمع عمود)، ودخل كثير من الناس الكعبة وصلوا في باقيها وكما يقول: (كان ذلك ناشئًا عن منهل فتحها لقراءة سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها، وشملت مؤلفاته الفقه، فقد ألَّف ما يزيد عن عشرين كتابًا فيه، وفي التاريخ ما يزيد عن خمسة عشر كتابًا فيما عرفنا عناوينها ومواضع بعضها، وله في التراجم والسير العديد من الكتب منهم الإمام البخاري، ومن أردف سيدي رسول الله خلفه على الدابة، ورجال الأربعين النووية، وفيمن أسمه زيد من الصحابة، ومؤلف عن أجداده حتى يصل بنسبه إلى أبي بكر الصديق، كما أن أمه شريفة من نسل الحسن بن علي بن أبي طالب، فأنا على هذا من أحواله -رحمه الله-، ولها كتاب عظيم بعنوان: (شمس الآفاق فيما للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- من كرم الأخلاق)، وله ما يزيد عن 15 كتابًا في النحو والصرف، وله كتب عديدة في البلاغة وعلم المنطق وفي التصوّف، وعلوم وفنون أخرى لا عد لها ولا حصر، وهو شاعر له من القصائد ما ملأ عدة دواوين، ولا تجد له كتابًا إلا وله فيه قصائد من شعره، وأتمنى على باحثينا خاصة المكيين منهم البحث عن كتبه وتحقيقها ليصل علمه للناس، فخدمة العلم أفضل ما اشتغل به المؤمن، فهل هم فاعلون؟!.

عن عبدالله فراج الشريف

تربوي سابق وكاتب متخصص في العلوم الشرعية كلمة الحق غايتي والاصلاح أمنيتي.

شاهد أيضاً

صورة مقالات صحيفة المدينة | موقع الشريف عبدالله فراج

معارك الأحزاب في الغرب

كل نظام سياسي مهما علا في تنظيمه وأشرف عليه سياسيون بارزون لابد له في مسيرته …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

%d مدونون معجبون بهذه: