الكتابة التي لا تفيد أحدًا ومجرد أن تثير المتاعب أولى بصاحبها أن يتركها.. والنصيحة للأخ ولو كان شقيقًا قد تكون أقسى
لا أشك لحظة أن أحد الفنون الصحفية التي ظهرت مع قدوم الصحافة إلى عالمنا العربي الكتابة الساخرة، وهي لون فكه من الكتابة الصحفية تميز به نفر من كتاب العرب واشتهروا به.
وقد ظهر في عالمنا العربي كتاب ساخرون متعددون، كان لهم في النقد الاجتماعي والسياسي الدور البارز، ولكن لم يعهد لأحد منهم أن جعل من الشعوب هدفًا لسخريته، ولا أن جعل فردًا معينًا هدفًا لكتابته الساخرة، ولم يجعل لجنس كالنساء مثلًا مجالًا لكتابته الساخرة.
والفرق شاسع بين الكتابة الساخرة المحقة لنقد ظاهرة اجتماعية بالغة السوء، أو ظاهرة سياسية مسيئة للأمم والشعوب، وكتابة ساخرة عن قصور ظاهر في أداء جهاز حكومي يقدم للمواطنين خدمات هامة واجبة. وطبعًا ليس كل كاتب يحسن الكتابة ويتقنها، وليس كل كاتب أحسن الكتابة يحسن اختيار موضوعات مقالاته.
فنحن نجد كاتبًا يجيد الكتابة ولكنه يختار موضوعًا لكتابته أن يتحدث عن حرية تعبير لهذه الجماعات التي تحترف العنف في وقت تظهر أقسى ما لديها عنف في مواجهة وطنه.
وهذا الذي لا يجد موضوعًا لمقالاته إلا حديثًا عن أولئك الذين يظهرون عداء لدين أمته في وقت تتزايد الهجمات على وطنه ودينه والدفاع عن بعض هؤلاء الذين يستهدفون الدين، فهو لاشك وإن أحسن الكتابة لا يحسن اختيار ما يكتب عنه.
وقد وصلتني مؤخرًا رسالة من أخ سوداني يعرض علي أحدى مقالات كاتب سعودي، يسخر من أهله بشكل جعلهم يغضبون من مقالته أشد الغضب حتى انتدبوا للرد عليه كاتبهم الشهير جعفر عباس، الذي أعد مقالًا هجائيًا للردعليه، كما أن بعضهم تقدم لملحقنا الثقافي في السودان بخطاب يشكونه فيه، وهذا الكاتب الذي يشكو منه إليّ له مع شخصي تجارب تجعلني لا أدخل في تجربة جديدة معه، فهو حتى مع أصدقائه ينتقدهم أحيانًا انتقادًا لاذعاً في مقال أوله ذم وآخره مديح، فما أراد أن يصله إليهم من ذمه يبقى أما مديحه فلا ينظرون إليه إلا أنه تمهيد لذمهم، فيقولون له: لا نريد منك مدحًا ولكن لا تذمنا.
والأخوة السودانيون وصفهم بالسلبيات المتعددة والخمول كما زعم، حتى أن تسمية إحدى مدنهم “كسلا” إنما جاء لأنها متخصصة في إنتاج الكسل، حتى أن السوداني يوصي ابنه ألا يبذل جهدًا ما دام يستطيع الراحة.
وضرب مثلًا لحب السودانيين للراحة أنهم يختارون مهنًا وحرفًا لا تستلزم جهدًا كما زعم وضرب لها مثلًا الطبخ والدروشة أو التصوف، وحراسة العمارات وأخيرًا الشعر وحجته أنه لا يحتاج إلى جهد ولا ينتجه إلا الكسالى بدليل أن موريتانيا بلد المليون شاعر.
فأضاف إلى الشعب السوداني شعبًا آخر هم “الموريتانيون” يوصمون بأنهم كسالى، هذا طبعًا إن وافقناه على أن هذه الأعمال كلها أقل الأعمال جهدًا، وهي حتمًا ليست كذلك وليست هي حرفة هذا الشعب الطيب فقط أما مديحه لهم فأمران: يذكرهما غير واثق منهما الأول: أن الجامعات البريطانية حافلة بالشخصيات العلمية السودانية، والثاني منهما: أن السودانيين أكثر الناس احترافًا للرعي، على اعتبار أن الأنبياء – صلوات الله وسلامه عليهم- أكثرهم احترف الرعي.
والحقيقة التي لاشك فيها أنه من حق الإخوة في السودان أن يقولوا له لاتذمنا ولا نريد أبدًا مدحًا أو ثناءً منك، فما اعتاد قومك منك إنصافًا حتى نرجوه منك.
وما أجمل ما أنهى كاتب المقال في ذم أهل السودان وهو أنه زعم أنه سأل أحداً عن سر تعلق السوادنة بمهنة الرعي فقال له أن المسألة ببساطة تكمن في (أن البشر يخطئون عليك في حين أن البهائم لا يمكن أن يدركك خطؤها ولا زلتها)، فلأهل السودان أن يقولوا له إن ما أخبرك به صاحبك صحيح إذا كان البشر كلهم لا يقدرون الناس، أما إذا كان البشر فيهم من يقدر للناس فضلهم ويدرك حقيقتهم فيذكر لهم ما امتازوا به لا ما يعيبهم به فهم الذين نعرف لهم فضلهم لا غدرهم.
والكتابة التي لا تفيد أحدًا ومجرد أن تثير المتاعب أولى بصاحبها أن يتركها والنصحية للأخ ولو كان شقيقًا قد تكون أقسى.