إن الله الذي افترض علينا الصوم بقوله تعالى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدّة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون”.
في هذه الآية نبهنا الله عز وجل إلى ما فضل به هذا الشهر الكريم، فبدأها بأن الشهر -تكريمًا له- أنزل فيه القرآن العظيم، الذي عرف به منهج الحق، ودعا الناس إلى الإيمان به، فمن تلا هذا الكتاب بتدبر وجد فيه الهدى والبيّنات عليه، بما يفرق به بين الحق والباطل.
ثم أوجب علينا صيام هذا الشهر المتراوحة أيامه بين 29 يومًا، وثلاثين يومًا، فمن شهد الشهر مقيمًا غير مسافر، صحيح البدن لا يضره مرض حينها، فصيامه الشهر واجب. فقد أمر الله بصيامه أمرًا مؤكدًا حين قرن الفعل المضارع بلام الأمر ليكون المعنى “صوموا” ثم بيّن الأسباب التي تبيح الفطر فيه، فذكر السفر، الذي يبيح للمسلم الفطر أثناء السفر، ليلزمه صيام الأيام التي أفطرها في السفر إذا أقام، وذكر المرض يصيب المسلم فيبيح للمسلم الفطر إذا كان الصيام يضره، وبيّن الله عز وجل أن إباحة الفطر حين المرض والسفر هو من اليسر الذي جعله لعباده، فالتكاليف العبادية ليست للتعجيز، بل هي ممّا يسعد العبد أداؤها في يسر، فالله لا يريد لعباده العسر، لذا فديننا كله يسر، ولا عسر فيه أبدًا، والمتشدد فيه على نفسه أو غيره يخالف أحكامه، وينفر الخلق منه.
وما يسّر الله لنا الصوم إلاّ لنكمل عدة أيام الشهر صائمين، فإذا فرحنا بالفطر يوم العيد كبّرنا الله على ما هدانا إليه من اتمام الصيام، ويسّر لنا ذلك، لنشكر ربنا أن هيأ لنا كل خير، وصدّ عنا كل شر.
وما أعظم هذا الموسم من مواسم العبادة إذا استغللنا أيامه ولياليه خير استغلال في عبادة الله، ففي الحديث الشريف: “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه”، فما أجملها من فرصة لتغفر لنا الذنوب السابقة بمجرد أن نصوم هذا الشهر مؤمنين بفرضيته علينا، راجين بذلك الثواب.
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة من الأمم قبلها، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حين يفطرون، ويزين الله جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا.. ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله”.
وخير ما نستقبل به رمضان التوبة إلى الله من كل الذنوب والخطايا، والعزم على ألا نعود إليها أبدًا؛ لنؤسس لحياة جديدة فيها التجارة مع الله بالطاعات، وترك المعاصي، ولنعلم أن الله يفرح بتوبتنا.. فقد جاء في الحديث الصحيح: “لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فأنفلت منه، وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى إلى شجرة فاضطجع في ظلها -وقد آيس من راحلته- فبينا هو كذلك فإذا هي قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح”.
ثم علينا أن نستقبله بتصفية ما في القلوب من أحقاد أو حسد، ولنسع ما استطعنا لإزالة كل ما بيننا من أسباب القطيعة، فليعفُ المظلوم عمّن ظلمه، ولينسَ الأخ إساءة أخيه، وليقبل الزوج على زوجته لا يمنعه من التحبب إليها ما قد يكون صدر من خطأ منها في حقه، وكذلك هي تتجاوز عمّا وقع منه من خطأ.
ولنعلم أن الله -كما ورد في الحديث- عندما يطلع على أهل الأرض من علاه ليلة النصف من شعبان يغفر لهم جميعًا سوى مشرك ومشاحن، والشرك أبعده الله عنا بهذا الدين الحنيف، ولم يبق سوى المشاحنة والخصومة فلنزلها من حياتنا، ولنقبل على الله في هذا الشهر بقلوب بيضاء خالية من كل ما يعكر عليها صفو الحياة.
ولنبدأ حياة جديدة في رمضان ليس فيها إلاّ الخير ولنواصلها بعده حبًّا في الله واتِّباعًا لرسوله- صلى الله عليه وآله وسلم، فهل نحن فاعلون؟ هو ما أرجو والله ولي التوفيق.