فكرة الالتقاء بين الشرق والغرب، والتي عبر عنها أحد شعراء الإنجليز في نهاية القرن التاسع عشر، وجزم بأنهما سيبقيان متنافرين فقال: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، وهي مقولة وإن استفزت كثير من محبي الغرب في عالمنا العربي المسلم، أو حتى المحبين فقط للتقارب معه، إلا أن فيها من الحقيقة ما يجعل لها في الثقافة الغربية والإسلامية القبول، ذلك أن الواقع لا يزال يؤيدها، فلا الغرب بكل ماضيه المصارع للشرق يمكنه التخلص من هذا الصراع المبني على أن الإسلام عدو للغرب، ولا يمكن للمسلمين ككيان مستقل في هذا العالم عن الحضارة الغربية بقادر على أن ينسى ما أفرز له الصراع مع الغرب من مآسٍ، لا تزال آثاره بادية في حياته، ولا يزال لهذا الصراع نظريات تبث تبعد الالتقاء بالغرب ودون خسائر، فالصراع حدته لم تخف منذ محاولات الغرب السيطرة على الشرق عن طريق ما أسماه الغرب استعمارًا، وهو في الواقع خراب آثاره المدمرة باقية حتى اليوم في أمم الشرق كلها، لا أمة الإسلام وحدها، وما لم ينس الغرب أطماعه في الشرق فلن يلتقي مع الشرق أبدًا، ودومًا الصراع لا يحكم فيه بالانتصار لطرف دون آخر، فالصراع دومًا قد ينتج العكس، فإذا المنتصر مهزومًا، هذه عبرة استقاها الإنسان من تاريخ الصراعات البشرية التي حدثت على مر الأزمنة والدهور، فلا غالب دائم، ولا مهزوم دائم، ولعل الغالب هو من يكتب بيده انتصار المهزوم وتحوله إلى غالب، هذه هي حقائق الحياة التي يجب ألا تغيب عن طرفي أي صراع يتم سواء أكان صراعًا دينيًا أم سياسيًا أم ثقافيًا، ولذلك تجارب خاضتها الإنسانية عبر الحضارات، ومن يغفل عنها ولاشك هو الخاسر، وطول مدة الهزيمة للشرق من قبل الغرب، هو ما جعل الغرب يتمادى في غروره وظن أنه سيبقى منتصرًا دائمًا، إلا أن هذا الانتصار الذي تصوره حضاريًا أصبح اليوم مهزومًا، ذلك أن الانتصار الثقافي والعلمي لم يكن للغربيين وحدهم بل إن رموز هذا الانتصار في كثير من الأحيان جلبه للغرب مهاجرون من الشرق، وهو اليوم أمر أشد وضوحًا وملاحظة، فلن تزور مركزًا ثقافيًا أو علميًا إلا وتجد فيه من الشرقيين المهاجرين الذين لهم قدم السبق في هذا المجال، بل إن التفوق العسكري صنعه آخرون من الشرق، نقلوا إليه عنوة أيام الحرب العالمية، فالاتحاد السوفيتي القديم ليس فيه من الغرب إلا جزء من موسكو ولا يمثله كله، وها هي اليوم مراكز الفضاء والمراكز الطبية والثقافية العالمية يحتشد فيها من رواد الإبداع الشرقيين الكثيرون، فتميز الحضارة الغربية موهوم، ومحاولة إبرازها على أنها صناعة غربية فرية لم يعد أحد يصدقها، ولكن الغريب أن كل مبادئ الغرب عن التعايش مع الآخر تسقط عبر ممارساته التي تزداد عنفًا مع الزمن، فليس هو الغرب المثالي كما يدعي، فالشرقيون فيه نعمة له، ولا يزالون يخشون غدره بهم، وله صور كل يوم تعيد إلى الأذهان بشاعة تصرف الغرب مع أمم الشرق في دولنا الإسلامية، وحضارتنا، وفي الصين وحضارتها، وفي اليابان وحضارته، والهند وحضارتها، بل إن كثيرًا من حضارة الشرق تضررت على يد الغربيين أكثر مما تضررت على أيدي الإرهابيين اليوم، فقد سرقت آثار تلك الحضارة العلمية وآثارها، وبيعت في أسواق الغرب، وأصبحت عماد متاحف الغرب ومكتباته والتحقيق في جامعاته، ومن يزرْ المتاحف الغربية، يجدْ أجمل ما فيها مجرد آثار شرقية، فمحاولات تزييف التاريخ وقلب الحقائق هو الفن الوحيد الذي نجح فيه الغرب، ويظل يردد على مر الأيام والسنين ذلك، حتى يهيئ لهذا العالم أن يبني حضارته لا على الصراع، وإنما على التميز، وحينئذ لن ينجح الغرب أبدًا في هذا الصراع، فللأمم الشرقية قدم السبق في هذا المجال ولاشك، ولعلم يُدركون هذا، ويقللون من غرورهم.